سجون عائمة يحتضنها المحيط.. حان الوقت لتغيير البوصلة
بشرى بوغلال | كاتبة من المغرب
من كان يظن أن سلالة جديدة من الفيروسات التاجية ستعصف بعالمنا بدعم من سنة العجائب هذه ٢٠٢٠، حيث أصبحت الكثير من القطاعات العالمية في مهب رياح هذا الكائن الفيروسى الفتاك.. فقد تمت مهاجمة رئتي أكبر الحركات الاقتصادية والتجارية عبر العالم.
لقد هاجم القاتل المتسلسل المسمى كوفيد 19 لكوكبنا الأم بعد سبق إصرار وترصد منه على الأراضي الصينية ليجتاح بعدها كل أشبار الأرض، ويلقي بظلاله السوداء الخانقة، ويبسط أجنحته الشيطانية على فردوس كوكبنا الأزرق.
لقد شنت الكورونا حربها الباردة على كل أوجه الحياة على الأرض، مُغِيرَةً بأسلحة من العيار الثقيل على الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية برًّا، جوًّا وبحرًا، لتشل بذلك حركة الملاحة البحرية والجوية بصفة شبه تامة.
مما أثر سلبا على أفراد طاقمها، وأصابهم بالإجهاد والعياء الشديد جراء اضطرارهم للبقاء على متن السفن بالرغم من انتهاء مدة عقودهم، فقد حُرموا من حقهم في العودة للديار حيث تجد عائلاتهم على شطآن الشوق في انتظارهم، بعد سفر طويل، وغياب جبري دام لما يقارب السنة بسبب تمديد المدة الزمنية من شهرين إلى ثلاثة أشهر، ليقبعوا بذلك على ظهر سفنهم التي أصبحت بمثابة سجون عائمة يحتضنها المحيط ويأبى فراقها.
ففي ظل أزمتنا الصحية ذات البعد العالمي أصبح لزاما على قطاع الملاحة البحرية أن يدفع ثمنا مضاعفا للذي ندفعه نحن على اليابسة،
أو لم يخَيَّل للجميع أن السهم وقع على عمال هذا القطاع وجعلهم كبش فداء لنظرائهم على الشاطئ والذين ينعمون بالراحة والأمن داخل أوساطهم الأسرية؟
أوليس ظلما أن يظل مئات الآلاف من البحارة في جميع أنحاء العالم عالقين على متن سفنهم الضخمة؟ التي ضاقت بهم ذرعا في زوبعة من الإستياء الشديد عمت أركان هؤلاء “العمال الرئيسيين ” كما وصفتهم الحكومات والجهات المعنية؟
حيث تم منعهم من مغادرة مراكبهم العملاقة، فأصبحوا غير قادرين على النزول إلى الشاطئ أو طلب الرعاية الطبية ، كما قد تم هضم حقهم في نيل إجازاتهم والعودة أدراجهم لكي يلامس التراب أقدامهم من جديد ، وينعموا بدفئ الطمأنينة في أحضان أسرهم التي أصبحت تعاني الأمرين في غياب ذويهم الموحش الطويل .
فالبرغم مما تقدمه الولايات المتحدة و وكالاتها من دعم للملاحة، وعمالها وأطقمها إلا أننا نناشد الأمين العام للمنظمة البحرية الدولية “IMO” السيد “كيطاك ليم” لتقديم خدمات الدعم والمساعدة وكذا الحث على سلامة السفن وأمن الملاحة الدولية بصفة عامة، وتعزيز النقل البحري من خلال تغيير الأطقم التي إنتهت مدة عقودها، وذلك احتراما لقواعد وإجراءات سلامة الملاحة وتكريس الأمن، وضمان حماية وإنقاذ الأرواح البشرية التي أصبحت خائرة القوى ، وبلغ منها الإنهاك مبلغا مهولا، حيث أسدل هذا الأخير بستاره الثقيل على البحارة والملاحين مما قد يضاعف إمكانية التعرض لكمٍّ هائل من الكوارث في أقاصي البحار والمحيطات، فمعظم الحوادث الملاحية تكون نتاجا للخطأ البشري بنسبة 80%، والناجمة أسبابها عن التعب والإرهاق المترتب في إجبار الطاقات البشرية على مواصلة العمل ليل نهار، دون منحهم فترة راحة لكي يستعيدوا أنفاسهم من خلال تبديل الطاقم المتفق عليه دوليا، والسماح لهم بمغادرة السفن والمراكب نحو اليابسة ، كما يجدر بكل حكومات العالم أن تسهر على تنفيذ القوانين فيما يخص حق البحارة في التنقل السلس من خلال تسهيل عمليات الولوج نحو بر الأمان في البلدان التي يبحرون إليها وكذا دول الانتماء، وتمكينهم من تأشيرات الدخول وإحداث استثناءات في الحجر الصحي.
فنحن مصرون على بدأ التنفيذ انطلاقا من لحظتنا هذه وحيث لا مجال للتأجيل لما في ذلك من ضرر كبير على البحارة والعمال والتابعين لحركة الملاحة البحرية، والتي أطبقت عليها البيروقراطية قيودها القمعية، فباتت تمنع أبطال هذا المجال في كل أصقاع الأرض من العودة إلى ديارهم.
ردا لجميلهم واعترافا بأهمية الخدمات التي يقدمونها للعالم حيث أننا مدينون لهم بالكثير ، نظرا لعظمة ما يقومون به من أجلنا كمجتمع دولي، و ارتقائهم بقطاع النقل البحري والتجارة العالمية حيث تعتبر الملاحة البحرية من القطاعات الحيوية والتي تعد شريان الحياة للعديد من الدول، مما جعل عدة منظمات ذي تبعية أمريكية، ترفع أصواتها في بيان مشترك، داعية إلى أهمية الحفاظ على حركة السفن وضرورة إبقاء الموانئ عبر العالم، رهن إشارة الحركة التجارية في ظل الأزمة الصحية التي تجتاح العالم منذ أواخر العام الماضي إلى يومنا هذا .
والتي وجهت صفعة موجعة لكل أقطاب المعمور،حتى كادت أن تفقده أسس التوازن الإقتصادي والأمن الغذائي الذي بات متجليا في صور تراجيدية من واقع بعض الدول التي تأثرت بإجراءات الحجر الصحي والسلامة العامة، حيث تم تسجيل ارتفاع مهول في مؤشرات الفقر المدقع، وندرة الموارد الغذائية وشح في المواد الحيوية المستوردة عن طريق السفن التجارية عبر العالم، والتي تعد بدورها حبل النجاة من دوامة “مجاعة” هائلة، خصوصا في دول جنوب الصحراء، وكذا الدول التي تعتمد على الواردات في أسلوب حياتها.
فبالتالي أصبح ما يقارب 51% من سكان الدول التي تفتقر إلى منافذ بحرية يواجهون نقصا يوميا في السلع الأساسية والمواد الغذائية، وكذا متطلباتها من الأدوية.
وهذا ما دفع برؤساء مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لتوقيع بيان مشترك مع عدة منظمات تابعة للأمم المتحدة ، والتي سلكت فيه مسلكا ذو أبعاد إنسانية، ولفتت إلى ضرورة تقديم يد المساعدة والعون من طرف الحكومات، لكل الدول المجاورة التي أطبقت عليها أسنان الكورونا بإحكام، وقيدت حركية المجالات الحيوية داخلها.
كما أن أزمتنا هذه ألقت بتعويذتها الملعونة على الملاحة البحرية على وجه الخصوص، ملزمة ما يقارب مليوني بحار حول العالم، ومقيدة حركتهم وحقهم في الإياب صوب بلدانهم بعدما أنهوا عقودهم.
فبدل أن يتم تغيير الأطقم في وقته المحدد وبشكل سهل وآمن، تقطعت بهم السبل داخل هياكل مراكبهم التي أصبحت تبدو كأشباح راسية على الشاطئ، وقد انعكست أطيافها على صفحة المياة الهادئة.
من دون أن يؤذن لهم بمعانقة أتربة أوطانهم المقدسة، ولقاء أهلهم وذويهم بعد غياب طويل يخلو من كل عدل وحق.
عالميا هناك ما يعادل 200.000 بحار يتقاضون رواتبهم على اليابسة في انتظار بدءِ عملية تبديل الطاقم، مما يتيح “للعمال الرئيسيين “، الذين هم في طور الخدمة الآن، الرجوع إلى أرض الوطن، ويتسلم المتواجدون على اليابسة قمرة القيادة خلفا لزملائهم المرهقين، ويمسكوا بزمام الأمور على متن السفن بعد إجازة طويلة فرضتها تبعيات القاتل التاسع عشر، والتدابير الإجبارية التي تهدف للوقاية منه ، وكبح سلالاته الجامحة .
حيث أشار وزير النقل البريطاني”جرانت شابس” إنه من غير الصائب أن يعلق آلاف الأشخاص في الموانئ عبر العالم ، ونحن مدينون لهم ولعائلاتهم بتغيير الأشياء. كما قال أيضا الأمين العام للغرفة الدولية للملاحة “غي بلاتن” : أن هذه القمة تُعَدُّ عرضا جيدا تم وضعه في متناول القيادات السياسية، من أجل تحفيز الحكومات على تنفيذ الحلول التي وفرتها صناعة النقل البحري، كما أن مجانية هذا الإجراء وعدم تطلبه لخوض مفاوضات معقدة، ستساعد على تطبيق الإرادة السياسية اللازمة من أجل وضع هذه الحلول قيد التنفيذ وبسرعة تامة.
حيث يجب التحرك بخفة يد لمنح تأشيرات البحارة وإعفائهم من الحدود وإجراءات الحجر الصحي، من أجل قلب الموازين وتمكينهم من تغيير الطاقم في ظروف آمنة، عاجلا وليس آجلا رغبة في حل الأزمة العالمية التي تلقي بظلالها المتعبة على أكثر من 200 ألف بحار داخل سفن ومراكب تجاوزت عقودهم، وتوفير كل الطرق والإمكانيات اللازمة من أجل إنصافهم بالعودة إلى الديار. كما تجدر بنا الإشارة إلى تحسين الإستقبال في منظمة الملاحة البحرية وتبسيط المساطر المتعلقة بالمستخدمين والعمال، وكذا تنظيم نشاط الوكلاء البحريين.
أما آن الأوان لوضع حد لهذه المهزلة التي يعيشها العمال والأطقم البحرية؟ أو ليس ظلما تقديمهم كقرابين بشرية لإرضاء زائرنا المنبوذ هذا؟ “كوفيد19″؟ أما آن الأوان لكي تستيقظ حكومات العالم من سباتها العميق وتستدرك الموقف، وتعطي لكل ذي حق حقه؟
فلتتعانق أيدينا، وتُرفعَ أصواتنا في وجه القيادات النائمة معلنين أن الوقت قد حان لتغيير البوصلة.