دراسة نقدية ذرائعية مستقطعة لـ(حين يبكي القمر/ حقول العار) لمحمد مهداوي
عبد الرحمان الصوفي| ناقد من المغرب
التوثيق التاريخي بلغة مفاتن جسد القصة القصيرة
أولا : التقديم
تضعنا المجموعة القصصية ( حين يبكي القمر / حقول العار ) لمحمد مهداوي داخل ما يسمى عند البعض ب ” قضية الأدب الوثائقي ” ، أو عند البعض الآخر ب ” قضية الكتابة التوثيقية ” ، وهما معا أقرب إلى الريبورتاج ، وأبعد من الخيال الجامح . هي قضية تطرح علينا مجموعة من الأسئلة ، منها : هل يمكن أن يكون هناك أدب خيالي دون عمق واقعي ؟ وهل يمكن أن يوجد أدب للواقع دون خيال ؟ . وهذه الأسئلة طرحت على الأدب العربي شعره ونثره قديمه وحديثه ، فطرح جدلا بين النقاد ، لكونه يصعب حده التجنيسي أو تصنيفه ، مثل “ ذات ” لصنع الله ابراهيم أو أعمال محمود درويش الشعريّة التي تدور حول جوانب من سيرته الذاتية ، وغيرهما . يقول ” منصف الوهابي ” : ” …وكان بعض شعراء الحداثة عندنا وكتابها المنظرين ، يرون أن الشاعر إنما يخذله الشعر ويخطئه التوفيق ، إن هو ترسّم في نصه جانبا من حياته أو كشف عن مطارح أفكاره وخوالج نفسه ، وكأن النص سرد تاريخي مداره على الماضي وغياب الذات المتلفّظة وليس تلفّظا يُفسح المجال ، في الملفوظ لظهور آثار تلفـّظه ، أي الإشارات الدالّة على ضمير التكلّم وضمير الخطاب ( أنا/أنت ) ، وظروف المكان والزمان ( هنا/الآن ) ، واسم الموصول واسم الإشارة ، وأزمنة الفعل وخاصة المضارع أو ( الحال ) كما كان يسميه العرب ، وما إليها من سمات التلفظ في الخطاب التي يصعب تأّويلها إلاّ إذا انتقلنا من الملفوظ إلى مقام التلفّظ ، أي إلى الضمير المتكلم وإلى مكان قوله وزمانه …” ( 1 )
فن الكتابة التوثيقية السردية هو التعبير المباشر عن كتابة سردية منطقية توثيقية شاملة هدفها تحقيق حلم أدبي أكثر واقعية . تركزت روح المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر/ حقول العار ” لمحمد مهداوي على عملية توثيق للحظات تاريخية وشريحة اجتماعية ( الأطفال ) ، في مدينة ” بركان ” المغربية ، إن هذا النوع من الكتابة يعتبر من مصنفات وسائل التذكير والذاكرة ، لكن الكاتب محمد مهداوي تجاوز أسلوب التقارير الصحفية إلى الحكي والسرد من أجل الإمساك بجميع خيوط فن القصة . وستتمحور دراستنا النقدية الذرائعية المستقطعة حول مفتاحين نقديين تطبيقيين ، الأول الجانب التوثيقي التاريخي ، والثاني الجانب الإبداعي ( لغة مفاتن جسد القصة القصيرة ) ، وفيها سنحاول الوقوف عند أهم التراكيب الإبداعية والفنية في القصة القصيرة الواقعية كإنتاج أدبي إنساني صادق وممتع وشيق .
ثانيا : السيرة الذاتية للكاتب ” محمد مهداوي ” .
بيوغرافيا من تقديم الأستاذ ” محمد موح ” :
( شارك الأستاذ محمد مهداوي في العديد من اللقاءات الشعرية في مختلف مدن المملكة، وتلقى عدة دعوات أدبية على الفيسبوك وجهتها له مجموعات أدبية وثقافية، قام خلالها في حوار مباشر بالرد على أسئلة المضيقين حول العديد من القضايا والمواضيع الأدبية والإنسانية والاجتماعية
كما فاز بالعديد من الجوائز التقديرية حيث توج في الكثير من المرات بالمرتبة الأولى في صنف الزجل والشعر …
كما ترجمت بعض قصائده الزجلية وقصصه إلى اللغة الفرنسية من طرف المترجمين ذ.الحسين اللياوي وذ.نجم الدين مهلة ود.يحي يشاوي ) .
ثالثا : المدخل البصري للمجموعة القصصية ( حين يبكي القمر / حقول العار ) .
المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر / حقول العار ” لمحمد مهداوي ، صادرة عن ” مكتبة ووراقة بلال / فاس ” / الطبعة الأولى / غشت 2019 . المجموعة القصصية ” من الحجم المتوسط ، تحتوي على ست وثمانين صفحة .
يقول ” محمد مهداوي ” في توطئته لقصصه ” حين يبكي القمر / حقول العار ” : حين فكرت في كتابة قصص عن مرحلة تاريخية عصيبة من ماضي مدينة أبركان طرحت على نفسي عدة تساؤلات :
– 1: هل باستطاعتي – وأنا لم أعمل في حقول النواريوما – أن أؤرخ لمرحلة السبعينات والثمانينات بالمصداقية التي يستلزمها التوثيق الحكائي .
– 2 : هل أدون هذه القصص محتفظا بالأسماء التي كانت عنوانا لهذه الأحداث الواقعية ، خاصة وأن أغلبهم لا زالوا أحياء .
– 3 : هل أدخل هذه الحكايات ضمن السيرة الذاتية أو الغيرية أو الحكي القصصي السردي المألوف … كيفما كان الحال فأنا حاولت التأريخ والتوثيق لمرحلة عصيبة من تاريخ مدينتي …سأحاول قدر المستطاع ، تقريبكم من الأوضاع المزرية ، التي كانت قائمة ، مستعملا أسلوبا ، يجمع بين الأسلوب التاريخي التوثيقي والأدبي ، مع استعمال بعض تقنيات السرد المعروفة ، المبنية على التشويق والمتعة والتدرج الحكائي …” ( 2 ).
” حين يبكي القمر/ حقول العار ” مجموعة قصصية قصيرة لكاتبها ” محمد مهداوي ” ، تضم المجموعة ما يلي :
( إهداء – مكان الأحداث وسياقها – توطئة – تمهيد – تقديم – بداية زجلية / كان يا ما كان ) – أربعة عشر عنوان لقصص قصيرة ( متوسطة الطول ) ) .
يختم الكاتب مجموعته القصصية بما قيل حولها . ونختار من بين هذه الاقوال ما قاله الشاعر ” محمد فريد : ” استغلال بشع للمعمرين واستعمار شنيع للشعوب المستضعفة في العالم ونموذج للمغرب كمستعمرة ، وليس محمية ، إنها قصة للواقع الاستحماري الذي مارسه الإقطاع الأوليغارشي والطبقة البرجوازية المتحالفة والمرتبطة أساسا بالإمبريالية العالمية وأذنابها ، ما أحوجنا لإبداعاتك المتميزة والمنحازة للفقراء ، وفضح الممارسات الغير أخلاقية والغير إنسانية …” ( 3 )
إن مسألة الكتابة التوثيقيّة تربطنا بالسؤال القديم ، الجديد ، المتجدّد : هل قضيّة الكتابة التوثيقية قضيّة جنس أدبي أم هي أدبية جنس ؟ وهل يمكن القول بأن الأدبية هي التي تجعل لغة مصدرا تجنيسيا لمصادر الأدب…” يمكن للكاتب أو الشاعر أن يُسائل الكلام وأن يستنبط منه فكرة أو موضوعا أو عالما . ومن حقّ كل كاتب أن يستخدم كلمات القبيلة أو العشيرة أو كلمات معظم النّاس ، ولكن شريطة أن يسلّط عليها ضوءا جديدا أو يجعلها تغتسل في ماء جديد ” ( 4 )
يقول ذ محمد موح في التمهيد في نفس الموضوع التجنيسي : ” …تتبعت كل حلقات ” حقول العار ” [ أي مجموع نصوص المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر ] ، وقرأتها بكل ما تتطلبه القراءة من تركيز وتدقيق ، ووجدتها جد مميزة إن على مستوى الاختيار ( اختيار الفكرة ) ، أو على مستوى الموضوع أو الأسلوب ، أو طريق السرد أو الحكي ، أو في كيفية خلق عنصر الإيثار والتشويق …” ( 5 )
رابعا – الجانب التوثيقي : تكامل الأهداف التوثيقية بين الذاكرة التاريخية والغلاف والإهداء في المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر/ حقوا العار “
1 – الذاكرة التارخية :
يهتم التاريخ بمجموع أحوال الناس في زمن مضى ، فيجمع معلومات حول ذلك الزمن . لذلك يمكن القول أن التاريخ بشري ، وهذا لا يعني ، كما تصوره المؤرخون التقليديون أن مادته هي بالضرورة ” الأبطال – الزعماء – الملوك … ولكن المدارس الحديثة في التأريخ لا تدرس الإنسان كفرد – رغم أهميته في صنع هذا التاريخ – إنما تدرس التاريخ الاجتماعي ، أي الإنسان كعضو في جماعة مهما كانت طبيعته ، فالتاريخ ، ليس هو الماضي فقط ، بل الماضي و الحاضر ، أي إنه “عالم ذهني يستنبط في كل لحظة من الآثار القائمة” ( 6 )
يقول ” محمد موح في شهادته حول المهمة التوثيقية التي أنجزها ” محمد مهداوي ” :” كاتب لا يعرف الملل همه الوحيد هو إطلاع الجيل المعاصر بماض قاس مرير مرت عليه أكثر من أربعين سنة …لقد حاول الأستاذ ( محمد مهداوي ) خلالها أن يجول بين الحقول ليقطف من كل حقل زهورا شائكة يصنع منها باقات جميلة من حيث الحياكة الفنية ، لكنها تترك في النفوس ٱثارا بالغة وٱلاما موجعة …” ( 7)
انجز الكاتب ” محمد مهداوي ” مجموعته القصصية لهدف محدد هو ” التوثيق ” بقالب سردي حكائي … بعيدا كل البعد أسلوب القصة الصحفية التي تعتمد الخبر والأسلوب التقريري . إن رغبة محمد مهداوي كبيرة في الحفاظ على الذاكرة التاريخية فترة السبعينات والثمانينات في مدينة بركان . لذلك اعتمد الأسلوب التوثيقي الذي هو معرفة المعنى الأساسي للذاكرة والذاكرة التاريخية
المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر/ حقول العار ” ذات قدرة توثيقية لمجتمع السبعينات والثمانينات في مدينة بركان وعلاقته ب ( بفيريما النوار ) ، يقول ذ عبدالعزيز أو شيار في تقديمه للمجموعة القصصية : ” …لقد وفق الكاتب ذ محمد مهداوي في إبراز معالم الظلم والجور المسلط عليهم ( الأطفال ) محاولا كشف المستور عن تلك الطفولة المغتصبة التي سرقت بسمتهم وأحلامهم الجميلة معتمدا في غالب الأحيان على قصص واقعية بقيت عالقة في الذاكرة …” (8 )
في واقع الأمر يمكن أن تكون المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر / حقول العار ” محاولة جادة لإثراء الوجود الثقافي بالمشاركة التوثيقية لممارسات الماضي من أجل المستقبل ، ومن أجل أن يتاح للأجيال الأدبية القادمة فعل أرقى وشرط أفضل لإيجاد العلاقة بين “التوثيق والتقدم “، لأن التقدم – كما هو معروف – هو نوع من العلاقة بحاجة الى عملية متكاملة بين الماضي والحاضر والمستقبل . إن الفعل التوثيقي عند ” محمد مهداوي ” هو ارتباط حي يجمع بين المسؤولية الأدبية والمسؤولية التاريخية ، وبين الانتماء الثقافي والغيرة الوطنية .
يقول عبدالمالك المومني : ” فيرمات المعمرين والإقطاعيين المحليين ، حافلة بشتى القصص والحكايات هذه واحدة شيقة ، نذكر رواية الصديق معمر بختاوي أطفال الليل في التجربة نفسها ( وفي نفس المدينة ) …فاحكوا يا أدباء بركان المقاومين والوطنين المخلصين والشهداء فإن لكم ما تقولونه ! …” (9)
2 – توثيقية صورة للغلاف :
يحمل غلاف المجموعة القصصية صورة بالأبيض والأسود أخذت لآلة في ” معمل النوار ” تستعمل في تقطير وعصر زهرة الياسمين ثم تصديره سائلا خارج الوطن ، ليعبأ بعد ذلك في قنينات عطرية غالية الثمن ، تعرض في أبهى وأجمل الأسواق العالمية ” .
يعود تاريخ إنشاء ” معمل النوار ” ببركان إلى الفترة الاستعمارية ، يقول ” محمد مهداوي ” : ” … المعمرون الفرنسيون وبمساعدة أذناب الاستعمار في المنطقة ، هم الذين كانوا يتعاملون مع العمال ، شيبا وشبابا ، أطفالا وعذارى ، بكثير من القسوة الغلظة . حاولت سرد هذه الأحداث الأليمة على شكل قصص ، محافظا على مصداقيتها وواقعيتها ، لأنها شهادة عينية لأناس من دم ولحم ، شكلت فترة السبعينات والثمانينات مسرحا لأحداثها المؤلمة …” (10) .
ويقول عبدالقادر ذهبية : ” إنها الحقبة المؤلمة عانى منها أسلافنا في ظل الاستعمار الغاشم ، ومن عانى أكثر وحتى الآن هي الطبقة المستضغفة التي تبقى رهينة الحاجة لكسب القوت اليومي بشتى الوسائل …” ( 11 )
3 – توثيقية الإهداء :
” إلى البراءة المغتصبة تحت جنح الظلام
في غفلة من التاريخ
وخلل في الجغرافيا “
عرفت جميع القرى والمدن المغربية ظاهرة الطفولة المغتصبة ( تشغيل الأطفال ) ، فالأطفال الصغار بخروجهم للعمل من أجل بعض الدراهم التي تمكنهم من اقتناء لوازم الدخول المدرسي أو مساعدة آبائهم في متطلبات العيش … تغتصب الطفولة حين تجد الأطفال ( بائعي الجرائد وماسحي الاحدية في المقاهي العمومية وعند مفترق الطرقات يتسولون أو يبيعون بعض الأشياء البسيطة ، وفي الضيعات الفلاحية وفي الأسواق والشواطئ …. ) إنهم أطفال صغار رأسمالهم البراءة والاستعطاف والتدلل من أجل دريهمات لا تسمن ولا تغني من جوع … وهم يمارسون هذه المهن قد يتعرضون لاعتداءات جسدية وتحرشات جنسية دون مقاومة إلا البكاء والصراخ . هؤلاء الصغار يبدون أكبر من أعمارهم بكثير بسبب خروجهم إلى العمل وتعرضهم للمضايقات والإجهاد . حيث يتم اغتيال طفولتهم ودخولهم مرغمين سن الرشد والرجولة ، وهذا هو الأخطر في ظاهرة الطفولة المغتصبة .
خامسا – الجانب الإبداعي : الربط بين الخط الدرامي والخط الزمني للأحداث في المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر/ حقول العار ” .
1 – الافتتاح ب ” كان يا ماكان ” / الزمان والمكان في المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر/ حقول العار ” .
كان يا ما كان في قديم الزمان .. تجعلنا نرحل في ضرب من الاستذكار السّردي للحظة تاريخية مرّت في مدينة مغربية اسمها ( بركان ) ، وحقيقة تؤكد أنّ ما حدث حدث فعلا . كان يا ما كان بها افتتح محمد مهداوي مجموعته القصصية رغبة منه في تقليب أحول السرد ، لأن فعل الزمان السردي فعل لغويّ …
يقول محمد مهداوي ( 12 ) :
كان يا ما كان //// ف قديم الزمان
حكايا تروبها //// لعجايز للصبيان
دراري صغار //// زينهم زين الكمرة
صحكتهوم صفرا //// ومعيشتهم مرة
محلاهم طيور //// نورو السيكور
الورد رحب بهم //// ب سبع عطور
هازين درعية //// بالدوم مكسية
مشاو فالريمورك /// عند الفجرية
المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر ” محاولة جادة لإثراء الوجود الأدبي و الثقافي بالمشاركة التوثيقية لممارسات الماضي السلبية من أجل بناء مستقبل أكثر إيجابية ، ومن أجل أن يتاح للأجيال القادمة فعل أرقى وشرط أفضل في حياة كريمة ، و لإيجاد العلاقة بين التوثيق والتقدم الحضاري وحقوق الإنسان ، لأن التقدم – كما معروف – هو نوع من العلاقة بحاجة إلى عملية متكاملة بين الماضي والحاضر والمستقبل.
جاء في القصة القصيرة ” اغتصاب وردة الياسمين ” ما يلي : ” لن أنسى هذا اليوم أبدا ، كان يوما مشؤوما ، تلفه الكثير من علامات الغدر والخداع ، حيث سقطت الإنسانية في الوحل ، وتلطخت براءة الطفولة بالإثم الخطيئة . لا أعتقد أن الكثير من العقلاء يستسيغ ما حدث ، إلا إذا كان عديم الأخلاق ، لقد سقطت ورقة من أوراق الخريف في عز الصيف ، في غفلة من الزمان ، وعلى مقربة من بشر لا يسعني وصفهم إلا بالغوغاء والدهماء ، فرغم تساؤلات الجميع عن كنه غيابي وسر ابتعادي عن حقول العار ، لم يجرؤ أحد البحث عني ، تساؤلات …همهمات …إشارات …همز وغمز ولمز ، لكن دون القيام بخطوة واحدة بسيطة ، ربما كانت ستنقد شرفي ، وتعيد لي أنوثتي …” ( 13 )
سرد أحداث الماضي الذي يتراءى فيه المكان و الزمان ، حيث تصبح مهمة الحكي أن يضعنا إزاء رؤية واقعية ، في جانب منها ، الاجتماعي والنفسي والسياسي … الكتابة القصصية عند ” محمد مهداوي ” لا يمكن أن تؤخذ من حيث هي وثيقة أو تاريخ حياة وعصر وجيل . إنّما هي شكل فنّي ينضوي على سرد شيق بالمعنى الواسع للكلمة ، دون أن يسوقنا أسلوب التشويق إلى القول أن صلة القصص بالحياة انقطعت ، أو هي مفصولة عن المجتمع . و” الأدب يظلّ تخيرا نوعيّا من الحياة ، على قدر ما يظلّ عملا تخييليّا ، الأمر الذي يسوّغ قولهم “واقعيّة العمل التخييلي” ، فكلّما ارتبط الكاتب بالواقع ، كلما كان أثره في القارئ كبيرا … قد يبدوَ التخييل أقلّ غرابة من الحقيقة وأكثر تمثيلا. والتمييز لا يقوم في الأدب بين واقع وتخييل ، وإنّما بين مفاهيم عن الواقع مختلفة ، وطرائق من التخييل متنوّعة…. ” (14 )
ونقرأ في القصة القصيرة ” فرحة لم تكتمل ” …لم أحس يوما بالإرهاق مثل ما حدث اليوم ، خاصة ونحن لا زلنا في فترة ما قبل الشروق ، أحسست بالإغماء ، أخذت قنينة ماء وسكبت ضخات كبيرة على رأسي ووجهي لأستفيق ، بدت لي أزهار الياسمين كالصبار ، تريد ازرادي ، وأنا أهرب منها ، أهرب ، أهرب . أغرقت جسمي النحيف في عمق قناة الري الرئيسية ، فأحسست ببعض الانتعاش ونسيت للحظات الكابران والرومي وأمي ،
فأحسست بالراحة رغم أن هروبي هذا كان قسريا ، يشبه إلى حد ما هروب الجندي المبتدئ من الخدمة العسكرية ، ألقيت بجسمي في الماء وسبحت كسمكة البوري في ماء قناة الملون بالحمري .
نظرت إلى القمر فرأيته قد اختفى وراء غيمة رمادية ، واعتقدت لحظتها أنه يشاركني همومي ، فأجبته منذ تلك اللحظة ، وأصبحت أحكي له ما بي من جراح ، فصار يخفف عني ويسليني بأنواره الذهبية . ” (15 )
2 – الجمل المؤثرة و أسلوب الحكي الواصف للأحداث :
يعتبر أسلوب الحكي الواصف للأحداث أحد أهم هذه الأبواب التي يجب الولوج من خلالها لمساءلة النصوص القصصية في ” حين يبكي القمر/ حقول العار ” وذلك لأن الحكي يستلزم الأشكال والأبنية والعلامات واللغات والأخيلة والخريطة الذهنية لكل قصة . إن الحكي يرتبط بالأساس انخراط الكاتب في الحكي القصصي بأبعاده اللغوية والفنية والدلالية و حضور الفن الجمالي التشويقي داخل القصص عموما .
إن القصة في فعل الكتابة عند محمد مهداوي في ” حين يبكي القمر / حقول العار ” جسد فسيفسائي ل ( اللغة والشخوص والأمكنة والأزمنة والألوان والفضاءات والبنيات … وهي عوالم شعبية وتراثية وتاريخية (ساحة سيدي أحمد أبركان – الموقف – سواقي ملوية – فريما السيكور – الكاشو – عاصمة البرتقال – السنديقا ( حي سالم ) – مقهى العرفة – السجن المدني – المسجد الكبير – باحة اللقلق – قنطرة وادي شراعة – مقبرة النصارى – ضريح سيدي أحمد أبركان – مستودع البلدية – لمحال – بويقشار – ، المكتب – الطحطاحة – سالم – بوهديلة …) .
مما جاء في القصة القصيرة ” فتيات الجاسمين ” : ” حين أشرقت الشمس ، سمعت فتيحة صوت لاسران ، سارعت للظفر بالمقدمة في الميزان ، الكل في طابور مستقيم الواحد تلو الآخر مصطف كما تصطف أثواب الغسيل فوق سلك حديدي ، الجميع ينتظر دوره لوزن ما جادت به أنامله من زهور ناصعة البياض . كان الرومي لوبيك Leprec ، يدخل يده في الدرعية لمراقبة مدى اثقان العمال لعملهم ، وبين الفينة والأخرى يصيح بلهجته المعرنسة ، ( لا للحشائش …لا للبرجون …لا للخش…) . لا زالت فتيحة تتذكر أنها في يوم من بداياتها في العمل ، فتش السيد لوبيك درعيتها فوجد فيها بعض الأوراق الخضراء ، انحنى أرضا وحمل حفنة من ” الغيس ” ووضعها على رأسها ، وغرس فيها نبتة ياسمين ، وأجبرها على التجول بين خطوط النوار لتكون عبرة لقريناتها …” (16 )
اعتمد محمد مهداوي أسلوب السرد الحكائي الذي انطلق من واقع حزين مُتعَب ، اشتعل فيه على تجميع أفكاره ، ومشاعر نفسيته لتصل حد الانفعال الوجداني الذي انطلق منه الكاتب ، واشتغل كذلك فيه على مشروع كتابته بأسلوبه الأدبي الذي يريده ( أدبيا توثيقيا ) .
3 – السرد المبتعد عن الإغراق في الرمزية الخانقة والسرد الممل المكرر .
وجدنا لغة المجموعة القصصية سهلة من أجل ايصال رسالة أدبية توثيقية تبين للقارئ بلا عناء ، ما تحمله تلك الرسالة من مآسي وآلام شتى ، و بصور شتى ، تضمنتها القصص القصيرة في المجموعة ، كما تميزت الكتابة القصصية بالوضوح ، والاستقامة ، والجرأة في قول كلمة الحق ….
نقرأ في القصة القصيرة ” دبابة بني يزناسن ” : ” ما أجمل أن يعيش المرء على ماضيه ، به يشحن طاقته ، بالرغم من شظف العيش الذي كنت أعيشه ، ورغم الاستغلال الفاحش الذي عانيت منه في طفولتي في حقول النوار بضواحي مدينة بركان ، إلا أنني أعتبرها ذكريات قوت عزيمتي ورفعت معنوياتي للبحث عن سبيل أرحب ، أضمن بها مستقبلي ومستقبل أولادي ..كانت ليلة ظلماء ، على شاطئ قابوياوا ، وعلى متن قارب صغير ، تم زجنا كالخرفان ، لنعبر قارة السود في اتجاه قارة البيض …” ( 17 )
مهما كانت جمالية النص المكتوب حين ينطلق من الواقع ، تكون صوره وألوانه أجمل بكثير من من النص الغارق في الخيال . يتجلى الإبداع بصورة واضحة لما يستمد الكاتب الفكرة والبناء النصي من الواقعية الحقيقية ….
لنتأمل القصة القصيرة ” الفاجعة ” : ” …اخترق سمعي صوت مدو ، هز كل كياني ، وبعثر عروق رأسي ، أربكني وأربك كل من كان منهمكا في جني النوار : إنه صوت أخي سمير وهو يصارع الموت ، إثر صعقة كهربائية عظمى … صعقته فامتصت دماءه وألقت به جثة هامدة على الأرض المبللة بالندى ، تجمع الناس والكوميس والرومي حوله أسرع الكابران حسن لتفقد أخي سمير فوجه جثة هامدة …”( 18)
استطاع محمد مهداوي ” أن يصور الخارج النفسي الإنساني ، و الدواخل ، والخلجات، والمشاعر ، بدقة وبساطة مليئة بالثقة وعدم التنكر لما حصل من خلال نقد بناء لممارسات خاطئة ارتكبت في حق الأطفال بالمدينة . يتبين من خلال المجموعة القصصية أن محمد مهداوي متحكم في البناء المعرفي التوثيقي ، والوعي الموضوعي بكل دلالاته المستمدة من حقائق الواقع ، كما تبين لنا أن الكاتب ابتعد عن حدود الذاتية الشخصية ..
سادسا – خاتمة :
إن الجمالية في النوع وليست في الكم ، والكاتب إنما يطرح الكلام بعضه على بعض حتى يظفر بغرضه من الكتابة التي تستمد موضوعاتها ، إلى حد كبير من البيئة الاجتماعية ،
لأن تأثير البيئة المحيطة والواقع ، يصدم ذائقة الكثير من الكتاب ، فتتفجر اللغة معبرة وواصفة ومفسرة بأدواتها التعبيرية المتعددة التي تحتضنها خصوصية كل جنس أدبي أو بيني . و” نحن نشاطر القائلين بأنّ بعض الصّيغ الشّعريّة وما تنطوي عليه من قدرة على الإيهام بالتّصديق والحمل عليه ؛ كان من نتائجها أن قام أكثر النّقد عندنا ، على المقاربة بين النصّ وما يذكره من وقائع وكائنات وأشياء ، حتّى كادت “الجودة” تنحصر في “ الإصابة ” بإقامة أمثلة الأشياء مقام الأشياء نفسها ….” (19) .
ونختم دراستنا الذرائعية المستقطعة بالقول أن السرد في المجموعة القصصية ” حين يبكي القمر / حقول العار ” سافر بي في رحلة إلى الماضي ، وكأني أعيشه مكانا وزمانا وأحاسيس ، خاصة وأني كنت أزور مدينة بركان في فترات العطلة الصيفية ، خلال فترة الثمانينات ، وكنت بدوري من الأطفال الذين اشتغلوا خلال عطلتهم في الفيرمات المحيطة بمدينة بركان .
الهوامش والمراجع :
1 – موقع القدس العربي / منصف الوهابي / في الكتابة التوثيقية الخيالي دون الخيال .
2 – المجموعة القصصية / حين يبكي القمر / الصفحة / 6
3 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 82
4 – قاف صاد / العدد 6 / 2007 / الصفحة / 14
5 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 8
6 – مفهوم التاريخ / عبدالله العروي / الصفحة / 35
7 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 78
8 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 12
9 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 78
10 – المرجع 2 نفسه / 12
11 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 82
12 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 13
13 – المرجع 2 / الصفحة / 15
14 – فكر ونقد / العدد 25 / يناير 2000 / الصفحة / 43
15 – المرجع 2 نفسه / الصفحة / 24
16 – المرجع 2 نفسه / الصفحة 34
17 – المرجع 2 نفسه / الصفحة 64
18 – المرجع 2 نفسه / الصفحة 54
19 – الحياة الثقافية / العدد 36 و37 / 1985 / الصفحة 71
20 – الذرائعية في التطبيق / عبدالرزاق عودة الغالبي
21 – محاضرات بالمركز المغربي لتعليم النقد الذرائعيي التابع لحركة التجديد و الابتكارفي الادب العربي
22- دور الذرائعية في سيادة الأجناس الأدبية / عبدالرزاق عودة الغالبي
23 – الذرائعية اللغوية بين المفهوم اللساني والنقدي / عبدالرزاق عودة الغالبي