شاهد واقرأ واستمع الرسالة الأدبية للكاتب السوداني : المنشتح درار الفائزة بالمرتبة الثالثة في مسابقة أدب الرسائل في بيت الفنون بواشنطن

أخي الفاضل/ معتصم موسى المحتـــرم

سلام الله يغشاكم، وعين الله ترعاكم… وبعد،،،

أكتب إليك معبرًا عما يجيش بخاطري من خلال هذه المسابقة الحافزة، التي جعلتني أفكر مليًّا في خوض هذه التجربة المثمنة عبر القائمين بها، فهي تمثل انتهاز أكثر من سانحة في وقت معًا، منها أن أبثك ما بي من أشواق، ومنها أن أعبر عن الواقع المرير الذي عشناه من بَعدك، وفي أثناء بُعدك؛ ممتطيًا جواد الكَلِمِ، حتى أتجاوز نفسي إلى نفسك فأنظر في المرآة فألقاني أنت!

أخي الغالي:

لقد اجتاح قريتَنا شيءٌ غريب ينفث إلى الصدر عبر التنفس، لم نكن نعلم له اسمًا ولا أصلا، وذلك بعد سفرك بستة أشهر، ولعلك لاحظت في الآونة الأخيرة رحيل مجموعة من قريتنا في صمتٍ، ولمّا يعلن العالم عن فيروس كورونا بعد! ولما تفشّت الظاهرة، فأصبح الواحد يتنفس بصعوبة، ولا يمرُّ عليه يومان، إلا وتجد شباب الحيّ يتسارعون إلى تجهيز المقبرة، حتى انتابنا شعورٌ معه إذا قيل لنا إنك متَّ يكاد يصدّق الواحد منّا ما قيل له، ولا أريد أن أفتّق جراحات الأحزان، فقد قلت في ابن عمي مصطفى عندما علمت بخبر رحيله:

فُجع الفؤادُ فما يُحسُّ ولا أعي      لمّا رحلتَ، حسبتُ أنّي مَن نُعِي

شبابُ القرى المجاورة يسكنون المناطق الأقرب إلى النيل، فتأتيهم الأخبار من قبلنا؛ لأنهم على الطريق السريع للمواصلات، ولديهم بعضُ مقومات الحياة، كالكهرباء والمياه والسيارات؛ ولذلك كانوا سباقين إلى معرفة أسباب تلك الوفيات من قبلنا، حيث أتونا بالأخبار المدويّة التي أعلنت عن ظاهرة تفشي فيروس كورونا، وأن ذلك ينطبق في أعراضه تماما مع ما كنا نشاهده يحدث أمام أعيننا، من رحيل لأحباب كانوا بالأمس القريب يعطرون ليالينا بأسمارهم الليليّة، ومفرداتهم التي مازالت تردداتها تقتحم الآذان، وكأنّ الواحدّ منهم يقف هنالك خلف الجدران.

لا أريد أن أجعلك تعيش لحظات الندم على الاغتراب، فكما قيل في الأسفار خمس فوائد، لكنها الحقيقة المرة.. قد تكون بعضُ الأوراق النقدية التي لم ترها أعيننا إلا في الشاشات حاضرةً بين يديك، ولكنك لم تشهد معنا كيف رحل أولئك الأحباب، فقد رحل الوالد، وتبعته الأخت، فابن العم، وكلما نظرت في عيني أيٍّ من أفراد الأسرة، قرأت الأسى سُوَرًا، وأخذت الصبر تلقينًا، ولكن ليت شعري.. آثرت أن أكون إلى جانب الوالدة بعد أن انتشر خبر الفايروس؛ حتى أشغلها ببعض شؤوني لكيلا تخرج إلى الجيران، وكما تعلم فهي قد تعوّدت ألا تحتسي قهوة الصباح إلا إذا اطمأنت على جيراننا، ولن تقتنع مهما قلت لها إنه الفايروس، ولذا كنت أبذل قصارى جهدي لأكون قريبًا منها، متوسّلا إليها بألا تخرج، لكنها كانت ترى كلّ العيب في ذلك، وتقول: كيف تمنعني السلام والمصافحة، وهي وبحكم عادة أهل القرية وأعرافهم قمة العيب والتقصير.

أخي الكريم:

نسمع بين الحين والآخر أن هذا الفايروس قد التهم كمّا هائلا من البشر، وأودُّ أن تطمئنّ بأننا نعيش في قريتنا مع بعض الاحتراز الذي لم نعهده، فما عادت السوق رائجة بالبضائع كما كان في السابق، كما لم تعد خضرواتنا جاذبةً كما كانت، إلا أننا نحمد الله تعالى أن مزرعتنا بها من الخضروات ما يكفينا، ومن حسن الطالع أننا نتناول منها الليمون والبصل الأخضر وشيئا من الفاكهة كل صباح، حينما علمنا أنها من الأطعمة التي تقي وتخفّف من أثر هذا الفيروس اللعين.

لقد أحسن والدنا عليه الرحمة التدبير في تربيتنا -والحمد لله- كما أبدع في أمر المزرعة، ولعلك تذكر جيّدًا كيف كان يجلس إلينا، ونتسامر معًا بعد صلاة المغرب، وكيف كان يسرد لنا من حِكَمِهِ، ولا أريد أن أشغلك كثيرًا، لكن أود منك وأنت في تلك البلاد التي ليلُها نهارُنا، وقد نما إلى علمنا بعض سوء المعاملة من بعضهم، ألّا تنسى تلك الدّرر التي كان والدنا عليه رحمة الله يتحفنا بها، خاصّة عندما كنا نجتمع على شاي المغرب ذي المذاق الخاص.

قلت لنا إنك تعمل في متجرٍ كبيرٍ، فلذا لا تتعامل مع الناس بردود الأفعال، بل كن محسنًا لمن أساء إليك، واجعل شعارك الابتسامة، ولعلمك فإن الوالدة إذا سمعت بما يدور بشأن التفرقة العنصرية في ناحيتكم، فلن يغمض لها جفن، ولذا فلن أذكّرك بالإكثار من التحدّث إليها للطمأنينة، كما لن أوصيك باتّخاذ ما يلزم من طرائق الوقاية، وأنت تخالط الناس بحكم طبيعة عملك.

أما عن أبنائك فانصح لهم بأن يكونوا خير سفراء لبلادهم من خلال سلوكياتهم الحميدة، واجعل من زرع الثقة في أنفسهم والاعتماد على النفس في تحصيلهم الدراسي ما ينشأ كلٌّ منهم راغبا في المزيد من التفوّق، وعلّمهم كافة الثقافات والمخاطر، وتحدّث إليهم عن طبيعة الحياة في تلك البلاد بما يستمعون إليه منك بشكله الصحيح، وليس بما يستمعون إليه من أقرانهم، ولعلك تفهم مقصدي، فالحياة عندكم مفتوح بابها على مصراعيه، ولا تفرّق في التعامل بين الذكر والأنثى منهم كما كان عندنا في بلادنا؛ حتى يتربّى الواحد منهم محترما لنفسه، ولغيره، ويتعلم ثقافة حسن الاستماع كما يريد التحدث.

وأخيرًا إن احترام الرأي والرأي الآخر، يجعل للفرد سماحة النفس وتقدير الآخرين له، فلتعوّدهم على العطاء بلا مقابل، وخدمة المجتمع الذي يعيشون فيه، مع الاعتزاز بالمجتمع الذي جاؤوا منه، فذلك يجعل من الفرد خير سفير لبلاده.

آمل أن تكونوا في عافية دائما، واذكرونا مثل ذكرانا لكم قلبَا وعينًا.

والسلام عليكم

أخوك: المنشتح درار علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى