الأسطورة وماوراء السرد في رواية (النوم في حقل الكرز) للروائي أزهر جرجيس
د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية من العراق
شكّلت الأسطورة جزءًا مهماً من حياة الشعوب وطقوسهم وعبّرت عن ثقافاتهم ممّا كونت هويتهم الجمعية. وقد شاعَ في أدبنا الحديث توظيف الموروث والشخصيات التراثية والأسطورية وقد نظر النقاد إلى هذه الظاهرة على أنها محاولة لإحياء التراث القديم بصورة حداثوية وأدى ذلك إلى شيوعها كظاهرة فنية بالرغم من عدم اتفاقي على فنيتها بقدر من أنها تشكل رؤى نابعة من موقف يفكك بنية القديم. وفي رواية (النوم في حقل الكرز) الصادرة مؤخراً عن دار الرافدين والتي رُشحت للبوكر القائمة الطويلة وقد و اعتمد الروائي في تسميتها على أسطورة قديمة عند الشعب النرويجي والتي تقول بإنَّ ((الإنسان يتحول بعد الموت إلى موجود آخر يتلاءم مع ما حوله.
لذا قررت أن ادفن في حقل الكرز كي اتحول إلى شجرة كرز. ص 207 )) وهذا النص سرده الروائي على لسان شخصية ياكوب الذي دُفن في حقل الكرز؛ ليكون الحقل فيما بعد قبر الشخصية البطلة سعيد . ولا بد أن اشير من أن الأسطورة بالنسبة للأدب هي نص مستوحى من التراث الشفوي، والروائي أزهر انطلق بروايته من نصوص شفاهية وهذه النصوص غربية تمثلت بالأسطورة التي سبق ذكرها وأخرى شرقية فضلاً عن اعتماده على تقنية ما بعد السرد وهي من تقنيات ما بعد الحداثة أي الرواية داخل الرواية، فالأولى ــ الروايةـــ انطلقت من المترجم الذي تلقى دعوة لحضور حفلاً اقامته صحيفة (داغ بوستن) ليلتقي برئيسة تحريرها وحين علمتْ بأنه عراقي أخبرته عن (سعيد ينسين) العراقي الكاتب والقاص في صحيفتهم واعطته مسودة مذكراته وطلبت منه ترجمتها فباشر بالترجمة لتنتهي الرواية الأولى وتبدأ الثانية بسرد تفاصيل سعيد واختفاء المترجم بشكل نهائي. وسعيد ينسن عراقي مغترب في النرويج لأعوام طويلة لكنَّ الذي حدث بعد سقوط النظام تلقى سعيد بريداً الكترونياً من الصحفية عبير تخبره بفور عودته إلى العراق لأمرٍ طارئ وهو استلام جثة أبيه التي تم العثور عليها في مقبرة جماعية في الحلة كونه كان يسارياً فتم إلقاء القبض عليه وتعذيبه من قبل النظام السابق فمات اثر التعذيب، وسعيد الذي ترك العراق في زمن النظام السابق لأن أحد زملائه قد وشى به عند السلطة بأنه القى نكتة تسخر من الرئيس.
فعاد سعيد إلى بغداد بعد أن قالوا له إنّها جنة ودخل وقرأ (بغداد ترحب بكم) فمن هذا الحدث عمل الروائي على المزاوجة بين الواقعي والخيالي وأسطرت السرد حين صور لنا بغداد ما بعد الحرب و في خضم والاحتلال وكأنها عدن على الارض ومن هنا تبدأ الأسطورة الشفاهية تأخذ دورها في تحريك مسار الحدث اذا يقول البطل سعيد عند رؤيته لبغداد ((أشجار مشذبّة ومتساوية الأطوال مثل حرس ملكي ، تصطف على كتفي طريق طويلة ومعبّدة إلى بوابة عالية مبنية بالآجر والمرمر. الجسور معلّقة وشاهقة وكأنها مراجيح سمّاوية، والمرسي تختنق بالزوارق البيضاء. أطللت برأسي من النافذة ، فشممت رائحة بغداد .. ص144))
ويواصل السرد الأسطوري في وصف كراج العلاوي قائلاً((كان مرأباً واسعاً وانيقاً ، تصطف على جانبيه حافلات حديثة تتجه نحو باقي المدن العراقية ولدى الباب يتنصب جهاز صغير فيه زر اخضر مكتوب تحته اطلب تاكسي . كبستُ على الزر فظهرت على الشاشة عبارة تقول شكراً سيتم تلبية طلبك فوراً . وبعد ثلاثة دقائق وصلت سيارة مرسيدس سوداء تحمل علامة التاكسي المضيئة في الأعلى .. بغداد الجديدة من فضلك . ـــــــــ اي مكان بالتحديد؟ خلف حي السريان قرب دكان حمزة العطار .. ـــــ استاذ لو سمحت اعطيني عنواناً تفصيلياً كي اضعه على الجي بي اس .. ص145)).
وفي موضع آخر يقول(( وصلنا بغداد الجديدة من دون أن أشعر بالوقت فالطرقات غير مزدحمة رغم آلاف المركبات التي تسير فوقها. لقد تخلصت أمانة العاصمة من التقاطعات التي تثقل السير عادة وابدلتها بالجسور والانفاقص147 ))
النصوص السردية الخيالية قد احتلت مساحة مهمة من الرواية كما ساهمت في خلق احداثاً تقوي من عمق الحبكة ، وهذا السرد من الممكن أن نعّده أسطورة سردية لأنها متناقلة شفاهياً كما تناقلت اسطورة ما بعد الموت عند الشعب النرويجي.
ولأننا نتفق على أن الأدب والفن يحافظان على الأساطير فالروائي جنح بخياله إلى هذه الرؤية والتي انتقلت عبر اللاوعي الجمعي ودخلت في الرواية وكونت لنا حدثاً مهما وهذه الأسطورة الشفاهية قد تناقلها الكثير من العراقيين عمّا ستؤول إليه بغداد بعد 2003 ، وهذه الاسطورة هي بحد ذاتها انساقاً مضمرة من صنع السياسيات العالمية وقد مارسها هتلر سابقاً لفرض سلطته النازية على العالم وجعل شعبه يردد مثل هكذا أساطير، والقارئ للرواية قد يحكم بأنه سرد ساخر وحامل الكثير من الكذب و الأسطورة في طبيعتها تحمل صفة الزيف فتعلمنا على لغة الكذب؛ لأن الجهر بحقيقة الشيء سيؤدي إلى الثورة وهذا ما جعل السياسة العالمية تختلق الأساطير وتبثها في الإعلام وعند ضعفاء الشعوب ولاسيما العراق وصورته بأنه سيكون دولة عالمية واخفت حقيقة الدمار. الاسطورة تغيب عنها الجهر بالحقيقة كما قال الإله دلفي في الاساطير اليونانية (ولا أظهر شيئاً ولا أخفي شيئاً أشير) وهذه الإشارة تعلم الكذب .
فالروائي أزهر جرجيس قد تناول هذا السرد من ضمن الواقع وحقيقة الشيء ليلفت القارئ إلى أنه يتم خداعه في كلِّ مرة من قبل السياسيات الكبرى وبالتالي العراقي يقع ضحية أساطير مختلقة. الرواية عالجت مواضيع اجتماعية وسياسية وكشفت قناع دعاة الإنسانية والمواطنة.