انتخابات البرازيل.. فوز “لولا” ضروري من أجل الكون!
حسام عبد الكريم | كاتب من الأردن
الجولة الثانية والحاسمة من انتخابات الرئاسة في البرازيل مقررة في وقت لاحق هذا الشهر, في 30 تشرين الاول, وفيها يتواجه الرئيس السابق لولا دا سيلفا, الاشتراكي الشعبي اليساري, مع الرئيس الحالي وممثل اقصى اليمين البرازيلي جاير بولسونارو, الذي يشبهه كثيرون بالرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب من حيث آرائه الصادمة وكلامه الذي يخلو من اللباقة والدبلوماسية في كثير من الاحيان.
لعل هذه الانتحابات هي الأكثر شراسة واستقطاباً في تاريخ البرازيل. بشكلٍ بطوليّ يليق بمناضل عريق, عاد لولا, ابن الـ 76 عاماً و الذي يصفه كثيرون بـ “بطل الفقراء” بسبب عمله الرائع لدعم الطبقات الفقيرة في البرازيل اثناء فترة رئاسته ما بين 2002 و 2010 , الى المشهد السياسي في البرازيل مظفراً بعد أن تغلب على المؤآمرة التي زجت به في السجن لـ 18 شهراً ما بين 2018- 2019 حيث اصدرت المحكمة العليا في البرازيل حكمها النهائي ببراءته من كل تهم الفساد التي لفقت له وأعادت له اعتباره.عاد لولا ليواجه الرئيس بولسونارو, 67 عاما, الذي قفز الى الحكم مستغلاً إقصاء لولا من طرف قضاة فاسدين ومافيا البنوك وجماعات البزنس المرتبطين بأمريكا , والذي يحظى بدعم اقصى اليمين البرازيلي الذي تعجبه “مؤهلاته” والتي ابرزها خلفيته العسكرية وايمانه الكاثوليكي وسياسته الداعمة لرجال الاعمال. لا يمكن العثور على شخصين اكثر تنافراً وتباعداً من لولا و بولسونارو.
مجموعة كبيرة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتشريعية تفصل بين الرجلين المتنافسين وتضعهما على طرفي نقيض. البرازيل بلد ضخم ومليء بالمشاكل والرئيس المقبل سيكون بالتأكيد مشغولا بالقضايا الداخلية اكثر من التفاته للسياسة الخارجية. ولكن هناك قضية داخلية لها في الواقع انعكاس واهمية عالمية وتتعلق بالكون كله: غابات الامازون وطريقة تعامل الرئيس والدولة البرازيلية معها.
السياسات التي اتبعها بولسونارو فيما يتعلق بغابات الامازون يمكن وصفها بـ “غير الصديقة للبيئة”, وهذا ليس اتهاما او مبالغة بل هي حقيقة تستند الى احصائيات رسمية وارقام وقرارات علنية اتخذها بولسونارو وتصريحات صدرت عنه.
مرارا وتكرار صرح بولسونارو بأنه “سيفتح” الامازون من أجل النمو و التطوير. و “تطوير الامازون” بنظر بولسونارو الداعم للبزنس, يعني قطع الاشجار الاستوائية وتهيئة الارض من أجل استثمارها لأغراض الزراعة التجارية (مثل الصويا), ومزارع الدواجن, ومراعي الابقار, والمعادن والمناجم, وبيع الاخشاب طبعا. لا شك ان هذه النشاطات تدر دخلاً معتبراً ولكنها في النهايةتؤدي الى القضاء على الغابات الطبيعية الموجودة منذ ملايين السنين, عدا عن كونها تتم في كثير من الاحيان على ايدي اشخاص ومجموعات غير مرخصين من قبل الدولة ويشبهون المافيات. وانسجاماً مع عقيدته و سياسته غير الصديقة للبيئة, قام بولسونارو وفي خلال سنتين فقط, من 2019 الى 2021, بتخفيض الميزانيات المخصصة من الحكومة للمنظمات والوكالات الثلاثة الرئيسية في البرازيل المعنية بشؤون البيئة بواقع 35% !
كما صدرت عن بولسونارو في عدة مناسبات تصريحات وتلميحات فيها استهزاء بموضوع البيئة وبالجماعات المهتمة بها وصلت عام 2019 الى حد قوله علناً, مستهزئاً : ” انا رجل المنشار”, في اشارة الى نيته الاستمرار في قطع الاشجار. وحسب منظمات دولية تعنى بشؤون المناخ, فإن معدل ازالة غابات الامازون الاستوائية خلال رئاسة بولسونارو تضاعف تقريبا : من 6,947 كم مربع عام 2017 الى 13,038 عام 2021.
عن ماذا نتكلم ؟
نهر الامازون في قارة امريكا الجنوبية هو اكبر نهر في العالم من حيث كمية تدفق المياه (215,000 متر مكعب/ثانية). وهو يفوق في كمية مياهه الانهار السبعة التالية له في العالم مجتمعة. ونهر الامازون وحده يمثل 20% من كمية مياه الانهار في العالم التي تصب في البحار والمحيطات. أحياناً يطلق عليه “بحر الامازون” بسبب ضخامته وعرضه الذي يصل في بعض النقاط الى 139 كم. وهو يمر عبر ثمانية دول من امريكا اللاتينية.
غابات حوض الامازون الاستوائية هي الاكبر في العالم, وتغطي مساحة 6 مليون كم مربع, 60% منها في البرازيل. وهي تمثل ما يزيد عن نصف الغابات المطيرة في الكرة الارضية وفيها اكبر تنوع للحياة البرية والطبيعية في العالم حيث تحتوي على ما يقرب من عُشر نباتات وحيوانات الارض. ولذلك فإن غابات الامازون المطيرة , بأشجارها الخضراء الهائلة, تعتبر اكبر مصرف في الكون لغاز ثاني اكسيد الكربون وبالتالي تلعب دورا مهما في التخفيف من مشكلة الاحتباس الحراري على مستوى العالم. ووجود غابات الامازون لا غنى عنه من اجل مقاومة أزمة التغير المناخي. ستؤدي خسارة غابات الامازون لو حصلت الى تراكم تركيز غاز ثاني اكسيد الكربون في الغلاف الجوي وستقل امكانية التخفيف من اثره على الكرة الارضية. كما ان ازالة الغابات التدريجية من شأنها احداث خلل في النظام الايكولوجي الموجود في حوض الامازون, بما في ذلك معدل الامطار. فكلما نقص حجم الغابات تزداد مواسم الفترات الحارة مما يؤثر سلبا على اشجار الغابات التي لم تتم ازالتها بعد بسبب زيادة درجات الحرارة والجفاف , وفي النهاية يتغير النظام الايكولوجي كله من نظام غابات مطيرة الى سهول جرداء.
والحياة البرية في الامازون معرضة للخطر ايضا. ومن ابرز الامثلة على ذلك السلاحف النهرية النادرة وبيضها, والنمور الاستوائية, وحوالي 400 نوع نادر من الطيور يتم بيعها وتهريبها بشكل غير قانوني داخل البرازيل وخارجها. وهناك انواع مميزة من القوارض والغزلان والخنازير يتم صيدها وبيع لحومها. في عام 2020 اصدرت منظمة “ارض البرازيل” غير الحكومية المهتمة بمحاربة الاتجار غير القانوني بالحيوانات البرية تقريرا من 140 صفحة ذكرت فيه ان ملايين الحيوانات البرية يتم تهريبها والاتجار بها كل سنة. وحذرت المنظمة في تقريرها من الاهمال الحكومي والتراخي في مكافحة تلك التجارة غير القانونية, والعواقب الوخيمة التي ستنتج عن ذلك على التنوع البيولوجي.
الحرائق المتعمدة في غابات الامازون!
عام 2019 اندلعت حرائق ضخمة في غابات الامازون البرازيلية, اكثرها في اقليمي بارا و امازوناس الاستوائيين. ورغم ان اندلاع حرائق في موسم الحر ليس امرا غريباً ويحدث كثيرا, إلا ان حجم الحرائق هذه المرة كان لافتاً من حيث الضخامة والاتساع. بلغ عدد الحرائق في شهر آب وحده 26,600 , وهذا رقم قياسي.الدخان الاسود الذي نتج عن الحرائق امتد جنوباً على مسافة 2,800 كم الى ان وصل ساوباولو وتسبب في ضباب اسود فوقها في ذروة الظهيرة! الكارثة البيئية تلك جذبت اهتماما دوليا في حينه وخصوصا انها تزامنت مع انعقاد قمة الدول السبع الكبرى واستدعت ملاحظات وانتقادات وجهت للبرازيل خصوصا من طرف الرئيس الفرنسي ماكرون الذي دخل في سجال علني مع بولسونارو.
وقد تبين من التحقيقات ان الحرائق لم تكن وليدة الصدفة او الظروف الجوية, بل انها كانت مدبرة ومخطط لها من طرف جماعة من انصار بولسونارو ومؤيديه. سبعون شخصا ما بين فلاحين من الارياف, ومغتصبي اراضي ورجال اعمال دبروا تلك الحرائق واتفقوا على اطلاقها معاً في “يوم الحرائق” انطلاقا من منطقة نوفو بروغريسو. صحيفة الغارديان البريطانية سلطت الضوء اكثر على ما جرى, وذكرت ان فردا يعمل لدى “وكالة البيئة البرازيلية” اخبرها ان تحذيرات وصلتها عن المخطط الشرير قبل خمسة ايام من الموعد المحدد له. واضاف المصدر ان وكالة البيئة حاولت التدخل ومنع الحرائق قبل حدوثها ولكن عملها أحبط لأن جهاز الشرطة المحلي رفع حمايته عن طاقم الوكالة الذي اصبح معرضا للتهديدات وللخطر. طلب مسؤولو الوكالة الدعم من العاصمة برازيليا ولكم لم يستجب لطلبهم. وحتى بعد ان اندلعت الحرائق كانت ردة فعل الحكومة بطيئة ومتراخية ولم تعط الامر الاهتمام الكافي. كما قررت الحكومة منع موظفي البيئة من التكلم الى الاعلام تحت طائلة المحاسبة.
حتى لو عاد لولا للرئاسة , الضرر قد وقع بالفعل
السجل البيئي للرئيس لولا اثناء ولايته مثير للاعجاب ويستحق التقدير. خلال رئاسته انخفض معدل ازالة الغابات بحوالي نسبة الثلثين: من 21,650 كم مربع عام 2002 الى 7,000 عام 2010 .
ولكن اصلاح الاضرار التي خلفها بولسونارو بسبب سياسته البيئية الكارثية قد يكون امرا صعبا او حتى متعذرا. صحيفة لوموند الفرنسية وصفت سياسة بولسونارو فيما يتعلق بالارض والمناخ بأنها “كارثة حقيقة”, واضافت “لقد حول بولسونارو البرازيل من دولة رائدة في مكافحة التغير المناخي الى بلدٍ منبوذ”. والان التقديرات تشير الى ان ما بين 15 الى 17 بالمائة من مساحة غابات الامازون المطيرة قد تم ازالتها. وزاد انبعاث غازات الاحتباس الحراري من البرازيل بنسبة 10 بالمائة بسبب الحرائق.
يشمل برنامج لولا الانتخابي مبادرات “خضراء”, مثل تقديم قروض للمزارع الملتزمة بمعايير البيئة . كما وعد بتدعيم المؤسسات المعنية بشؤون البئية والمناخ (التي اضعفها بولسونارو) وزيادة ميزانياتها, وتعهد بالالتزام باهداف اتفاقية باريس العالمية للمناخ. ولكن لو فاز لولا فسيكون عليه البدء بمواجهة تركة بولسونارو التشريعية اولاً , ومنها القانون الذي تم تمريره في مجلس النواب ويشرعن فعل واضعي اليد ممن استولوا على اراضي ودمروا اشجارها لأغراض تربية الماشية او زراعة الصويا, والقانون موضوع على لائحة الانتظار للنظر من طرف مجلس الشيوخ.
فوز لولا في الانتخابات ضرورة من أجل مصلحة العالم الذي لا يستطيع تحمل اربعة اعوام اخرى من حكم رئيس برازيليّ معادي للبيئة.