شعرية التحليق في مجموعة (ليقترب الغدير من الغزال) للشاعر أشف العاصمي
د. سمير الخليل
منذ البدء يضعنا الشاعر العماني (أشرف العاصمي) في مجموعته الشعرية (ليقترب الغدير من الغزال) الصادرة من (دار باز للنشر- عمان 2018)، إزاء عوالم ومناخات تنطوي على روح وتوهجات الاختلاف سواء على مستوى التقنيات التعبيرية، والمنطوق اللساني أم على مستوى المضامين الإنسانية والرؤى المحلقة التي ترتكز عليها النصوص وهي تتوغل في روح التجريب، ونزعة التماهي مع الوقائع والأمكنة والصور لتصنع رؤية تتمركز حول تطلع إشراقي واستشراقي يمسح مديات المعنى أفقياً وعمودياً، ونلمس في خضم هذا الاشتغال المغاير توظيفاً لرومانسية المفردة الشعرية المقترنة والمؤسسة لصور شعرية تثير الكثير من الادهاش، وتميل إلى مساحات من التأمل والاستذكار وتأسيس لحظة شعرية متوهجة ومتوجة بالاسترسال ومحاولة الفيض على أكثر من معنى وانفتاح على رمزية شفيفة وتأويل صوري، لا تخلو تقنيات التجريب من مغامرة لتوظيف وسائل ومقاربات لتأسيس مناخ شعري استثنائي يغرّد خارج سرب المألوف والتقليدي،وقد يوهمنا الشاعر بتعلقه بالمبنى العمودي والمفردات التي تشير إلى ذلك لكنّه في خضم التجربة وتجلياتها يَنزع إلى حداثة في الصور والتأسيس الذهني للمعنى، ولذا نراه ينهمك في بنية تناصيّة مع الموروث الشعري والديني وإيجاد مساحات للاشتباك الرمزي، وتوظيف التناصّات حتى تتحوّل تلك الاستعارات إلى علامات ثم إعادة انتاجها داخل بنية النص لتعبّر عن عمق المعنى وتسهم في تشكيل الرؤية المحلّقة وحتّى في نصوصه التي تبدو أنها ترثي أو تقترب من الحنين، أو (النوستالوجيا) للأمكنة والشخصيات لكنّه في أعماق هذه الرؤى يعيد تشكيل المعنى ليضع آفاقه توّهجاً صوريّاً وهذا ما يفسر عنايته بخلق الصورة الشعرية وانتاجها.
منذ العنوان بوصفه النص الموازي أو العتبة المضيئة والعلامة الدالّة يضعنا الشاعر إزاء حركية مشهدية صوريّة مؤطّرة بلمسة تمزج الشعرية بروح الترميز لعناصر الصورة الشعرية ويميل إلى شيء من المفارقة والاستفزاز وقلب قواعد أو بنية العلاقات بين الموجودات وأنسنة هذه الموجودات، وغالباً ما تبدأ النصوص بالجملة الفعلية توكيداً لتعميق هذا الجدل في خلق صور جديدة ومنتجة للمعنى المحلق من خلال تقويض الساكن والمألوف بحثاً عن المعنى الجديد، ونلاحظ جمالية الجدل والصراع بين المرئي والمسموع والحاضر والماضي والمحسوس والمجرد والحقيقي والنسبي وتضمين هذه الثنائيات لتجسيد خطاب شعري يعتمد التنويع والابتكار والتجريب الموحي، ويحتل الخطاب الشفيف للأمكنة ومناجاتها وأنسنة أبعادها في كثير من النصوص لاسيما نصوصه في الاشتباك (النوستالوجي) الشفيف مع مدينة (عُمان) و(غرناطة) و(مصر) و(مدينة مكة)، والإشارة إليها والتغني الشفيف بشخصية الرسول الكريم (صلة الله عليه وسلم) وغيره من الشخصيّات ففي قصيدة (عند ناحية المصب..) نجد براعة الاستهلال وزخم التوهج الرؤيوي المحلّق:
لم نحترف لغةً بحجم هلامها
لم يمش ضوء الشمس في أقلامها
مشت العروق
وكل نبض واقف
مرّت عمان نذوب في أنغامها..
مرَّ المهلّب
جابر
وقوافل من عزّة
لا شيء غير ذمامها ..
نحمي ليكتبنا الوجود سلالة..
تهوي النقائص تحت نار حسامها
هي حبّها في العالمين فريضة
لثغت به الولدان قبل فطامها (المجموعة: 7)
نجد في هذا النص سلسلة من الصور الشعرية التي تنمو وتتصاعد وهي تشتبك مع شعريّة المكان والمعاني المترشّحة عنه، ونجد براعة الشاعر باستعارة روح التغني بالماضي والنسق العمودي والتوكيد على التفعيلة وصور التأشير واشتغالات التأسيس للمعنى في النصوص ذات الميل الحداثي، إنها مزاوجة وتنويع بين جمالية النسق العمودي وايقاعات القافية وشعر التفعيلة وبين الميل إلى تأسيس صوري يعتمد الإشارة والاختزال وهي طريقة أو مقاربة فيها الكثير من التجريب والمغامرة والمزج بين الرؤى واستثمار الظواهر الفنية والخصائص –على مستوى التجنيس الشعري- لتشكيل نص شعري محلّق يستثمر أكثر من مستوى ونزوع في خلق مناخ جمالي جديد ومنتج فتجربة الشاعر (أشرف) تتصدى للاشتباك مع الأمكنة وتوهج شعرية وجودها ورمزيتها نجد هذه البراعة تتكرر، وهو لم يلجأ إلى التصوير المكاني بأبعاده الجغرافيّة المعهودة بل يتخذ منه محراباً تتشابك فيه المعاني والإشارات والصور الموحية.
ومن النصوص المؤثرة التي فيها شعرية الأمكنة يبرز نص (قصاصة على جدار الحمراء)، وهي رؤية اشتباكية مع شعريّة المعنى الكامن في رمزية المكان وتجلّياته التاريخية:
غرناطة والروح فيك حمامة
والظل منكسر على الأوتاد
والماء خارطة البياض
تسلّقت أطيافه من عمق ذاك الوادي
للمستحيل حدائق الرؤيا نمت
منثالة في سمرة الأعواد
والزهرة الثكلى
على بوّابة مبتّلة بمدامع الأحفاد
والأرجوانة حين تنفث عطرها غسقا
فينسكب المدى بمدادي
ما بين سحرك والمنى مثل الذي
ما بين أوردتي وبين فؤادي
غرناطة
أغريت فيَّ سلالة
وبعثت من أكفانهم أضدادي (المجموعة: 22-23)
وجاء التمجيد بصيغة ومناخات الأداء العمودي ليزيد من هيبة وجمال وقدسية المكان وشعرية الصور التي تتوالد في مخاض من التدفق الجميل وأنسنة الموصوفات، وعلى الرغم من الأسى الشفيف لكن النص ابتعد عن التوصيف الإجناسي فلم يكن تحت رداء –الرثاء- بقدر ما كان مقاربة صورية رمزية مع المعنى الكامن في المكان الذي لا يتلاشى فعبقه ينتج وجوداً كاملاً من الرؤى والأفكار والتداعيات الموحية.
ونجد مثل هذا الاشتغال في قصيدة (نقوش) وهي تتغنّى بتأريخ مصر وأمجاد الفراعنة، وجمالية المكان التاريخي والحضاري، فالتغني بالأمكنة وشرعنة الرؤية الشفيفة إليها تعدّ أحد المهيمنات في هذه المجموعة التي تتوغل عميقاً في تأسيس صورة التحليق وصناعة المساحة المضيئة في الخطاب الشعري، والعمل على توظيف الترميز الشفيف والمزج بين روح الشعر العمودي والصور الجديدة وأساليبها وبين عبق الماضي وجدله مع الحاضر، كل هذه الإحالات وغيرها من التناصات تعمل على تأسيس هذه المنظومة التعبيرية وانتاج نص مغاير يحمل الكثير من براعة التناول الجمالي ورصانة المعنى وتناثر الخط البياني للصور الشعرية الدالة والموحية:
مررت على جدار النيل
حيث أنا وبُحّتُه
أسير/ الروح ثائرةٌ
وأُسد غير ثائرة
تعلمت النقوش بخدّها من تاج (رمسيس)
وتوت الليل
يسدل لونه
ماستْ به الظفراتُ
راقصهُ عبير الحلم
ممتزجاً برائحة لـ(توت عنخ آمون)
ونادوني
بقافلتي توابيت الفراعنة القدامى
في حنوطهم شذى وزهرات لو تسهم
وصقر فوق ثعبان
وآوى
فآويني جراح القلب راعفة
ولم تعبر على (خوفو) (مسلاّت الضياء)
مررت بـ(خفرع) يبكي
تبلل عينه لغتي
ومنقرع على وهن
كئيب من شراب الامس
لم يرقص ولم ينم..(المجموعة: 28-29)
يبدو أن الشاعر يخرج على نظامه الإيقاعي العمودي والتفعيلي ويميل إلى إيقاع قصيدة النثر، ونجد رؤية محلقة تمزج بين شعرية المعنى وتمجيد الفكرة، والنص يتوغّل في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) واستجلاء معاني البسالة المقدّسة والتوغل في الإمساك بالمعنى الذي ينطوي على جهاديّة التجسيد الإنساني ورحلة البهاء المؤطر بنسق من التّبتّل، نلحظ في القصيدة كثيراً من الإشارات التاريخية والتناصّات واستعارة أجواء الألق والعروج الروحي عبر متوالية من الصور بليغة فيها الكثير من التمجيد والتحليق في أجواء بهيّة معطرة بالمعنى المؤثّر والموحي:
من صخرة المعراج تصعدُ ظلّكْ
قوسٌ سماوي
وفي البهو الملك..
نفخت بروحك كل أطياف الندى
فتمايل العود الرطيب ليحملكْ
قبساً تضيء سباسب المعنى الذي
مهما استدار لوجه شمس أوّلكْ
ترتدّ من طرف البعيد
سحابة عبرت قفار العمر كيما تنهلك
يا أوّل الأسماء في لوح البها
يا آخر الأقمار إذ دار الفلك
من كوّة في الغار
من عش السنا
يوم الهديل من الحمامةِ رتّلكْ
من دفء (مكّة)
يوم صبيان رأوا بين الخيام
شعاع نور في الحلكْ. (المجموعة: 34)
مقاربة شعريّة مع بهاء المكان وإضمامة من الصور التي تمجّد رحلة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومكانته عبر صور وتوصيفات عميقة ومحلّقة واستثمار بارع للتناصات والإحالات (الغار، مكة، المعراج)، ونلمس المناخ الروحي الذي يعانق صوفيّة صادحة بمكارم الرسول ورحلته وجهاده، ونجد نسقاً من بنية لفظية فيها الكثير من المجاراة للنسق الديني:
سبحان من أدناك
قاب القوس من نهر الملا العلويّ
برداً غسّلك ؟
وعلوت
جبرائيل يرسم خطوك الممتدّ نحو المنتهى
جلاّه لك ..(المجموعة: 35)
هناك كثير من الصور الدالة التي تجسّد معجزة الإسراء والمعراج حتّى أننا نكتشف المعنى الذي تتضمنه القصيدة بأنّ سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ما هي إلاّ معراج باتجاه المعنى الرسالي الباسل.
وعلى الرغم من الانشغال العميق بالأمكنة المقدّسة والتاريخية والمعاني السامية نجد لمسات من التحليق الرومانتيكي وبلغة شفيفة، وهذا التنويع في المقاربة التعبيرية وتنويعاتها تعكس قدرة الشاعر وتمكنّه ليس من اللّغة وتأثيث المنطق الصوري بل تعكس امكانية رصينة في تأسيس مناخات متنوعة ومتباينة تؤسس لخصوصية وطقسيّة بارعة، ففي نص (جهة الماورد) نجد مثل هذا المناخ المحلّق:
لميّ شذا الورد من خطواتك الآنا
قالوا ارتويت
أنا ما زلت عطشانا
ولوّحي الكف بالحناء في مهل
أخشى العيون التي (يحيين قتلانا)
وسامري نجمة
تلهو على فنن
ليعبر الضوء من عينيك انسانا
رشّي من المسك والريحان في دعة
لكي يقولوا
تمر الآن ريحانا
لا تسكبيه على الممشى
فأنت له .. قارورة
ضوّعتنا العطر أفنانا… (المجموعة: 38)
مجموعة الشاعر أشرف العاصمي وفق هذه التحليقات وروح التجريب واستثمار كثير من التقنيات التعبيرية، والتناصّات والإشارات تعكس تجربة ثريّة، وحريّة بالدراسة والتأمل والتعمّق في متعّة النص حيث يعانق الرؤى المحلقة، ولابدّ من الإشارة إلى أنَّ (أشرف العاصمي) وعدد من الشعراء العمانيين المعاصرين يتحاشون كتابة القصيدة العمودية بنمطها الشطري فيكتبونها موزّعة على عدّة أسطر للبيت الواحد، وهو خروج بصري الهدف منه رغبة في التجديد، فضلاً عن نصوص حرّة في تفعيلاتها السطرية والقافية المتنوعة، يبقى الشاعر (أشرف) مشروع تطور واعد بهذه القدرات الفنية الجميلة .