الأدب والحقيقة.. هامش على سيرة مي زيادة وآلامها
حمود ولد سليمان – غيم الصحراء | موريتانيا
1/
هذا الصباح وأنا أقرأ صحيفة القدس العربي اللندنية قرأت مقالة قيمة “ذكريات الكسندر زيادة: توريث الضغينة”
للكاتب الكبيرالروائي الأستاذ واسيني الأعرج، الذي أجله وأكن له محبة كبيرة ودائما يهمني أن أواكب ما يكتب في هذه الصحيفة وذالك لأسباب عديدة منها أن هذا الكاتب الجزائري الأصيل في كل كتبه التي قرأتها له:نوار اللوز.ضمير الغائب حارسة الظلال.سيدة المقام. أنثي السراب.طوق الياسمين.شرفات بحر الشمال.كتاب الأمير وأخري لاتحضرني، مبدع أصيل. ذا ثقافة واسعة ولغة جميلة تأسر القاريء. وزيادة علي ذالك يكتب بنشاط وحيوية نادرة، منذ سنوات وأنا أتابع مقالاته علي القدس ودائما ألمس فيما يكتب روح الجدة والصدق والعمق. كأنه ييحث عن الحقيقة مهما كان الأمر .يواجه كل شيء ويستميت في الدفاع عنها، من أجل ابرازها ناصعة ،وهذا في نظري من الخصال النبيلة ومن صفات الكاتب الجيد، منذ سنوات كتب واسيني الاعرج صاحب الضمير الحي المولع بتقصي الحقائق، والبحث في البقع المعتمة عن النور بغية تحريرأسري “الكهف الافلاطوني” .علي خطي برمنيدس المعرفي.تحمله الجياد في كل واد ،يخوض الحرب مع سدنة التاريخ مراهنا علي انتصاره علي جحافل الظلام.
كتب واسيني: مي/ ليالي إيزيس كوبيا وهي سردية أدبية تاريخية توثيقية/ عن مي زيادة ، وظل بين الحين والآخر يعود في مقالاته علي القدس إلي تراجيديا هذه المبدعة العربية الكبيرة التي ظلمها بنو جلدتها .وألصقوا بها التهم الكثيرة ولم ينصفوها بعد مماتها وظلت صورتها مهزوزة كما كانت في حياتها ،إهتمام واسيني الأعرج بمي زيادة هذه المسكينة التي عاشت حياتها معذبة لينتهي بها المطاف في مصحة للامراض العقلية ومن ثم الموت .
بالرغم من الدرامية في سيرة مي أعتقد ليس كل ذالك هو السبب في شغف واسيني بكتابة سيرتها وان كان ذالك دافعا سرديا وانسانيا قويا ،وإنما رهان الكاتب ورؤيته الأدبية علي البحث عن الحقيقة التي لايري الأدب مهما ولا جديرا بالاحترام إلا عندما يستطيع ان يقولها ويكشفها بكل صدق وتجرد وهو وترحساس عزف عليه الكاتب في سيرة الامير عبد القادر الجزائري في كتاب الأمير ويعكس رؤية واسيني للأدب. إذ الكتابة تصبح بهذا المعني نضالا وصراعا قويا لقول الحقيقة، فنراه كثيرا في مقالاته يدعو لذالك.كما يكتب في سيرته عندما تعرض لمحاولة اغتيال وأدرج اسمه في قائمة المطلوبين المبرمجين للقتل” أيام العشرية السوداء في الجزائر” .فنراه يراهن علي الكتابة ويلوذ بها من أجل الحقيقة والحياة .
2/
في أدبنا العربي وحسب علمي المتواضع، من النادر أن نعثر علي كاتب يجعل من المصداقية فيما يكتب ركيزة أساسية وجوهرية في مشروعه الأدبي ،وربما يعود ذالك لأسباب كثيرة منها أن العقل العربي وان كانوا علمونا انه يحب الفصاحة فهو ليس كذالك .انما يحب الرطانة واللف والدوران وحجب الحقيقة .ومن يجرؤ علي قول الحقيقة أو تسول له نفسه ذالك سيقع بلاشك في ورطة كبيرة قد لايخرجه منها سوي الموت. عندما ظهر المتنبي وشغل الدنيا وملأ الآفاق .قالوا ادعي النبوءة وانه مغرور بالإثم ؟ وتحرك سدنة التاريخ
علي مقصلة النصوص يشحذون أنصالهم .يدفعهم سوء الفهم لقول أحمد بن الحسين: (ما مقامي بأرض نخلة…إلا كمقام المسيح بين اليهود)، وتم تنميط المتنبي في هذه الصورة، والشيء نفسه مع حكيم معرة النعمان الذي ألصقوا به التهم الكثيرة ثم أدرجوه في قائمة الملحدين (وتم تنميط حكيم المعرة في هذه الصورة) ولايزال أبي العلاء عظيما
وأني للذي يقول في الشيوخ الجهلاء:
يتلون أسفارهم والحق يخبرني
بأن آخرها مين واولها
صدقت يا عقل فليبعد أخو سفه
صاغ الأحاديث إفكا اوتأولها
أني لهذا المبصر العظيم المحارب للكهنوت البائس أن يموت؟!
وعندما تفتقت عبقرية الاورفليسي الخالد ابن لبنان جبران خليل جبران قالوا سلخ إبداعه من نيتشة وعدوه غريبا وخارج العصر (وتم تنميط هذه الصورة) والامثلة كثيرة .ومثيلات مي زيادة وامثالها كثيرون، والكارثة الكبري ان سدنة التاريخ والنقد يحشون الرؤس بثقافة الزيف والتعود علي حجب الحقيقة.
وتعاطي الأدب علي هذا الفهم والأفق الذي يستبعد التفكير في الحقيقة/ لأن مداره في نظرهم هو الكذب وإذا كانت النظرية النقدية القديمة تقول أصدق الشعر أكذبه / و ان كان الكذب المقصود هنا هو/ المجاز فإن الكثير من الشعراء والكتاب نتجة تمثلهم لهذه النظرية اصبحوا كذابين في كل موقف وفي كل شيء.
3/
الأدب العربي اليوم بحاجة إلي من يساهم في التكريس المؤسس لمفهوم الكتابة بحثا عن الحقيقة واستبعاد الفكر الذي كرسه سدنة التاريخ في التعاطي والفهم الأدبي.. الكتابة لحظة صدق مع الذات ومسؤولية ضمير وأخلاق وعلي الكاتب أن يظل وفيا لشرطيتها لاشرطيته هو حتي الموت، لأن ذالك هو ما يجعلها كتابة أدبية اما غير ذالك فهو كذب وهراء ووهم.