استبن غايتك.. طبيب الغلابة (1)

رضا راشد علي | باحث في البلاغة والأدب بالأزهر الشريف

محمد مشالى: اسم ظل عشرات السنوات محفوفا بالتجاهل ملفوفا بأردية الإهمال ومنزويا في كهوف النسيان محسورة عنه الأضواء التى لا تركز إلا على التوافه الذي هم معاول ينقضون ليلا ونهارا في بنيان الأمة التي يُبَيَّتُ لها بليل ما يُبَيَّتُ، حتى ينتهي في هذه الحياة دورها وينقطع عن ركب الحضارة مسيرها ..ظل كذلك حتى كان رمضان الماضي فسلطت عليه أضواء برنامج ” قلبي اطمأن” ، فغدا في خفقة كخفقة البرق اسما مشهورا وعَلَما في الناس مغمورا، بعد أن ظل طويلا اسما مغمورا لم يكن في الدنيا شيئا مذكورا

نشر البرنامج على الناس شذا سيرة عطرة، نفذ شعاع بصيرة صاحبها إلى حقيقة الدنيا فرآها كما هي- خلافا لما يتوهمه كثير من الناس عنها- : قصيرة مهما طالت،حقيرة مهما عظمت ، فقيرة مهما اغتنت، دميمة مهما ازَّينت في عيون عشاقها ..رآها كذلك فاستبانت له غايته واتضح له طريقه ، فجعل غايته فيها تفريج الكروب وتخفيف الآلام عن الفقراء والبؤساء بلا مقابل أو بمقابل زهيد، وعلم أن هذه الغاية تتطلب الترفع عن الكثير من الدنايا، فرضي منها بالكفاف، واستعلى على شهوات الأرض التى استعبدت كثيرا من ساكنيها، فأحالت حياتهم جحيما لا يطاق، وانتهت بهم إلى نقيض ما قصدوا من إشباع شهواتهم وتلبية نداء غرائزهم .وما إن استبانت له الغاية واتضح له الطريق إليها حتى مضى إلى غايته سريعا لا يلوى على شيء ولا يلتفت إلى شيء لا يثنيه عن غايته علوها ولا طول الطريق إليها ولا يوحشه في طريقه قلة السالكيه .

رأى الناس طبيبا عازفا عن الدنيا، يغدو إلى عيادته ماشيا على الأرض بقدميه وإن حلق بروحه في سماوات العلا، يكاد يتجاوز نطاق الإنسانية واقفا على أعتاب الملائكية يعيش معهم بروحه وإن ظل بين البشر بجسده .
كالبدر أفرط في العلو وضوؤه للعصبة السارين جد قريب

رباه أبوه على أن يعيش للفقراء فقط، ثم صقلته أحداث الحياة فرأى منها ما زاده إنسانية على إنسانيته، فأيقن أن إكسير السعادة في الدنيا لن يكون ألبتة في قصر مشيد يسكنه، ولا في سيارة فارهة يمتطيها، ولا في حلة أنيقة يرتديها، ولا في طعام فاخر يتناوله ، وإنما يكمن في أن يعيش في هذه الدنيا إنسانا يزكي قلبه وينمى روحه بالمعانى الفاضلة والأخلاق الحميدة.

لقد زهد في هذه الدنيا راغبا عنها، ولوكان راغبا فيها لعاش منها في رغد من العيش يتنقل بين البيوت الفاخرة والسيارات الفارهة تنقل الفراشات بين الزهور الناضرة والورود المبهجة ..ولكن أي قيمة لهذا الحطام البالي في عيون النفوس الكبيرة التى تعيش إعلاء للقيم العليا والأخلاق الفاضلة في هذا العالم غير مبالية بما ينتابها من أذى لعل أعظمه هذا التجهيل المتعمد والتغييب المخطط له من قبل أناس يعلمون أن هذه النفوس الكبيرة هي زاد هذه الأمة في طريقها الطويل نحو استعادة الهوية والسير في ركب الحضارة الإسلامية لتقود العالم من جديد إلى السعادة الهناء .

رضي طبيبنا (طبيب الغلابة كما يسمونه) من الدنيا بالقليل، فلم يعبا بثيابه الرثة، ولا بعيادته المتواضعة، لأنه يعيش -بدلا من ذلك- نعيما لايستشعره أهل الدنيا ماثلا في راحة البال وانشراح الصدر ،فاستبدل بهذا النعيم الزائل نعيما سرمديا باقيا حيث تحفه دعوات الفقراء وثناء البؤساء .

لقد عاش طبيبنا (للطب) فجعل منه رسالة الإنسانية لتحفيف آلام الكادحين والكادحات ممن يطوون بطونهم جوعا وتتلوى أمعاؤهم سغبا =بينما يعيش معظم الأطباء(بالطب)-وشتان شتان بين من يعيش (للطب) (محتسبا) ومن يعيش (بالطب) (مكتسبا) – فالأول جعل من الطب رسالة سامية بينما جعل الثاني من الطب وظيفة رخيصة.

واليوم -بعد هذه الحياة الملأى بالعطاء- يترجل الفارس، ويلقى الطبيب الإنسان أو الإنسان الطبيب ربه تحفه الدعوات وتشيعه الصلوات وتدوى صفحات الفيس رثاء له وثناء عليه ودعاء لله أن يعوضه الله عما افتقد من متاع كان قاب قوسين أو أدنى منه، ولو أنه عاش لنفسه كما يعيش جل أبناء مهنته كانزا للأموال لما زاد ذلك من أجله لحظة، ولكان اليوم بين أطباق التراب مستراحا منه .

فلتهنأ سيدى بلقاء رب كريم لا تضيع عنده الحسنات ولا تبلى لديه المودات بلا تألٍّ على الله ولا قطع بدخول الجنة لمعين كائنا من كان، ولكنه حسن الظن في الله عز وجل؛ فقد ذهب التعب ومضى النصب، وبقي الأجر والثواب إن شاء الله .

اللهم فاقبل عبدك عندك في عليين واغفر له وارحمه واجعل صالح عمله مقبولا وارزقه الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .اللهم آمين .
يتبع إن شاء الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى