قراءة نقدية في نص الشاعرة ريمان عاشور (زائرتك )
أحمد دحبور / فلسطين
أنا لستُ محتاجة إلى كثير من الأشجار التي تفرز أوراقًا للكتابة ..
كما أنني أعلنت في وجهكم مذ قدمتُ أن خزِّنوا مدادكم لسنوات قادمة لعلَّكم تحتاجونه لاحقًا ..
سأكتب نفسي على تلك المساحات التي باعدت بينكم عقب أن أضحى الكون فارغًا ..
سأكتبُني على أخشاب حاملات الراحلين إلى أضرحتهم..
سأنحتُني على شواهد قبورهم..
ستستنشقون رائحتي ويبقى بارودها وجرثومها في ذاكرتكم أعوامًا كثيرة مديدة قادمة..
سأكتبُني على أنقاض مدنكم المُفجرة..
سأرصِّع صفحاتي بشظايا لحومكم..
بعيونكم المنبجسة من جحورها خوفًا وجزعًا ورعبًا..
ثمَّ سأعلِّق قلادة فجيعة فوق عنق (روشة) مغناج حدَّ شاطئها..
سألوِّن لوحات كتابي بلون دماء متدفقة على زجاج مهشَّم انغرس في لحومكم بلا هوادة أو استئذان..
سأختطف منه مدادي كلَّما احتجتُ إلى ذلك سبيلا..
لا تستوقفوني!!
فقد تآمرتُ والكون أنْ أخرج عليكم كما ذئب فرَّ من قطيع العمر جائعًا شرهًا متعطشًا لحصادكم..
كما الجراد يأتي على المحاصيل فلا يُبقي لها أثرا..
لقد اغتلتُ طرحة عروس يوم زفافها وجعلته باهتًا ملطخًا بالدماء بلا زغرودة فرح ولا دمعة وداع..
حتى هطلت دمعاتٌ حدَّ عتباتي ..
وجفَّت عند انحناءة خاصرتي ..
لم يبكِ العروسَ والدُها حين لم تهتزُّ أرضٌ تحت أقدام (الدبِّيكة).. حين لم تصدح أغاني الأفراح..
أخرجتها من بيتها كما اندفاع نملة غادرت جحرها بحثًا عن حبَّة قمح مؤنةً للشتاء ..
تتسحَّب هكذا همسًا دون دبيبٍ دالٍّ على أثر خطاها..
أنا من جاءتكَ وقد حملتَ في حقيبتكَ وطنًا توارى خلف جفنكَ كيلا يشهد على انفضاض بكارته.. انتهاك حرمته.. تمزيق حضارته.. حرق كتبه.. بحَّة مواله.. استشهاد أبطال لوحات متاحفه.. اغتيال بسمة طفولته..
أنا من حمَلتْ إليكَ قرون ثورٍ أبيضَ حُنِّطتْ مذ سبعين مضت ..
أنا عشرون عشرون قدمتُكَ من غار الحسابات القديمة..
من زمن جزية متجاوزة حان دفعها ..
د. ريمان عاشور Riman Ashour
٦-٨ من عام الجائحة
*************
#رؤى #جديدة (#للأنا)
للكاتب الحق في أن يكون له خصوصيته التي تنبع من زمنه الذي تفجرت فيه تجربته الكتابية والحياتية ،ومن خلال ارضيته التي نبتت فيها، ومن خلال ما احتفظ لنفسه من طريق إحتجاجي على الوعي الزائف السائد ، ولتقدميه أشكالا ورؤى سردية ونثرية بلاغية وجمالية ورمزية مغايرة وقابلة للنقاش والحوار.
المعروف أن اي تجريب أدبي لا يقدم إجابات بقدر ما يطرح وعي جديد ودلالات جديدة تقوم على الثوير في الوعي النمطي السائد ولا يعتبر ادب لافت وجاذب ان لم يفعل ذلك.
إن اللغة وعاء الكتابة، تظل مسكونة با (الأنا) وخطابها الفردي والجمعي على مدار الأزمنة وأيقن انه لا يمكن النظر للخطاب دون النظر لتأثير (الأنا) التي تكتفي دلالتها بما يوحيه مدلولها فقط؛ بل بما تحمل من رسائل هادفة ووعي لا يمكن أن يتجاهله الخطاب الذي يحمل قضية وطنية وقومية وانسانية كالنص الذي بين ايدينا وهو يحاكي ما حدث لبيروت من كارثة انسانية مفجعة عبر عنها بايماءات واشارات غير نمطية وبرؤى سياسية وادبية غير مباشرة.
من هنا استطاعت Riman Ashour بلغتها النثرية تحقيق عالمها والتعبير عنه عبر صرخات دالة ومن خلال ما يحيط بها من دوال مشاركة عبر نسق سردي ومحادثية وحجاجية رافضة لواقع عربي مأزوم ومهترئ ومن خلال رؤية موجعة مترابطة مع سياقاتها لتقدم بنية النص الكلية ولتشمل الكينونة العربية ، هو واقع الوجود المتصل بالذات (الأنا) حيث تبدأ ميلادها من حاملات الراحلين الى المدن المتفجرة بنترات الأمونيوم… من حركة الدم وتنتهي حركتها كذلك ما بين الميلاد والوفاة ويظل الدم العربي المراق هو الذي يجلل حرارة النص الى استشهاد ابطال لوحات المتاحف.
عشرون-عشرون هو تاريخ والزمن الذي يشير الى فاجعتنا من صفعة القرن الى خراب ليبيا واليمن وسوريا والعراق فدمار سيدة المدن بيروت اجل هذا التاريخ عشرون…عشرون تاريخ كارثي وثقيل علينا كعرب من خلال دوال الزمان والمكان الذي يفيض ويتسع للذات من خلال لغة الكتابة الذي يحمله النص حيث تتفجر الامكنة عبر غمامات حمراء وسوداء مثقلة بسحب الدم والخراب ويضيق بها الوجود.
فالذات الكنعانية والفنيقية هنا شاهدة على تجربة الانهزام التي تلازمنا تاريخا طويلا وممتدا في العدم تسيطر على نبرة السرد من اول اه الى آخر صرخة مدوية وتتحول الحقيقة الى مجاز ويتفشى الإغتراب في كل اشيائه على شرفات الزمن ليصير الوجود العربي ممزقا وصوت الكارثة صارخ في وجوهنا جميعا والمحرض التالي حيث تعلن الكاتبة انقضاء الزمن فماذا تبقى لنا غير مفردات الهزيمة وهل بعد الموت موت، إن الأمر جلل والانكسارات العربية متوالية.
في الختام سيدتي لقد طال انتقاد الذات وجلدها ولا بدّ من زرع الامل كي تعود من جديد ولتفيق المدن العربية من غفوتها وتعود ناهضة كي تجدد ذاتها لعلّ القادم افضل، أجل لتعود الذات تبث الروح في رماد الاشياء كالعنقاء ولا بد ان تحيا حياة الخلاص وتدور الأشياء دورتها ليخرج البحر الغمام ويطير القلب اليمام وتعود الصباحات التي غابت عن مدننا وتعود العصافير الى أرزها وياسمينها ونخيلها وزيتونها وبرتقالها ويسكن الندى اسطح الرمل وسنابل القمح وحيطان القدس ودمشق وبيروت وصنعاء وطرابلس الغرب وبغداد وسنظل نمد إيدينا للشمس ولو تعبنا لا الفساد يحرفنا ولا البارود سيخيفنا ولا الجهل سيوقف عجلة تقدمنا دمت حرّة متقدة بالإبداع والحياة دكتورتنا الرقراقة
احمد محمود دحبور
قراءة راقية لنص جميل سلمت الايادي