تنشئة الأحرار (1)

أ. د. محمد ناجح أبو شوشة | جامعة سوهاج

في هذه المقالة ألقي الضوء على قضية هامة من قضايا تربية الأبناء ألا وهي قضية ” تنشئة جيل الأحرار” والأحرار الذين أعنيهم هم من ليسوا عبيداً، وقد يتساءل القارئ الكريم مستغرباً: وهل هناك عبيد في عصرنا الحالي؟ أقول له: نعم، وللأسف الشديد فإن عدداً من الآباء والمعلمين نجحوا عبر أساليبهم التربوية في خلق أجيالٍ من العبيد الذين يعيشون بين ظهرانينا، وبالطبع فإنني لا أعني بالعبودية هنا أن هذا الجيل مملوك لأفرادٍ اشتروهم بحر أموالهم، أو أسروهم في الحروب، فلم يعد هذا ولا ذاك موجوداً في عصرنا الحالي، وإنما العبودية التي أعنيها هي شعورٌ داخلي بالأسر والرق تشعر به فئة من الناس ، فهذا يشعر أنه عبدٌ لرئيسه في العمل ، وذاك يشعر أنه عبد ٌ لعملائه وزبائنه ، وثالث ٌ يشعر أنه عبد ٌلرغباته ونزواته، ورابع يشعر أنه عبد لزوجته … إلخ، عبودية تورث أصحابها أخلاق العبيد وشيمهم، وتسلبهم سمات الأحرار وخصائصهم، 

جيل العبيد جيل سكن الجبن جنبات نفسه، وسيطر الخوف على كل ملكاته، وفقد سمات الإقدام والمبادأة والإبداع، جيل استمرأ الظلم ورضي به، وأدمن الهوان والاستكانة، جيل إمعة إذا خاض الناس خاض، ولا يوطن نفسه أبداً، جيل مسلوب الإرادة، مستسلم، يخشى الناس كخشية الله أو أشد خشية. 

والسؤال الآن: كيف يمكننا تربية جيل الأحرار بوصفه أساساً لبناء الدولة الحرة؟ والإجابة أنه يمكن تربية هذا الجيل من خلال تضافر جهود المؤسسات التربوية المختلفة وعلى رأسها كل من الأسرة والمدرسة. 

فعلى مستوى الأسرة يجب على الأبوين إشعار الطفل بكيانه وذاته، وبأهمية رأيه وفكره، وألا يجبرانه على فعل شيء إلا بالإقناع والحوار ، وأن يتجنبا أساليب القهر والقسوة والإذلال والتخويف والسخرية والتهميش، فكلها وسائل تؤدي إلى خلق جيل العبيد الذي لا نريده، وعليهما ترسيخ قيم الأحرار في نفسه ، ومنها : عدم الرضا بالدنية ولا الهوان والذل ، والثبات في الحق ، وألا يخشى في الحق لومة لائم، وإلا يبالغ في إجلال وتعظيم الناس ورهبتهم ، وأن يكون قادراً على الدفاع عن حقه ، وأن يقف في وجه الظالم ، وإلى جوار المظلوم ، وأن يؤمن بأن النافع والضار هو الله ، وأن الناس لا يملكون نفع أو ضر أنفسهم حتى ينفعوه أو يضروه ، وأن الرزاق هو الله ، وأن يتمثل قول الله تعالى : (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يردك بخير فلا راد لفضله) (يونس : 107) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وأن الأمة لو 

اجتمعت على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، وقوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها)، وعليه أيضاً أن يتمثل قول عنترة بن شداد: 

لا تسقني ماءَ الحياةِ بذلةٍ      

بل فاسقني بالعزِ كأسَ الحنظلِ

ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنمِ         

وجهنمٌ بالعز أطيبُ منزلِ                                              

وعليه أيضاً أن يتحلى بأخلاق الفرسان في نصرة الضعيف، وغوث اللهفان، ونجدة المستغيث، وأن يجير المستجير، وأن تُغرس هذه الصفات عبر الممارسات الحياتية، والمواقف الواقعية، وألا يُكتفى فيها بمجرد تقديم المواعظ. 

أما على مستوى المؤسسات التعليمية فإن على أعضاء هيئة التدريس، وإدارات هذه المؤسسات، أن يمارسوا الأساليب الديمقراطية الراقية في تعاملهم مع التلاميذ، وأن يعلوا من قيم العدل والمساواة، وأن يبنوا – عبر المقررات الدراسية والأنشطة التعليمية – شخصيات ٍ حرة ًأبيةً، تعتز بذاتها، وتعتد برأيها، وتحترم الآخرين، وتثق في قدراتها ومواهبها، وتؤمن بأنها قادرة على فعل شيء، وتسعى نحو مستقبل تثق بأنه سيكون مشرقاً بإذنه تعالى، وبإصرارها وعزيمتها. وعلى أعضاء هيئة التدريس وإدارات هذه المؤسسات التعليمية أيضًا أن يتجنبوا أساليب الترويع والإذلال في تعاملهم مع طلابهم، وألا يفقدوهم الثقة بأنفسهم، وأن يكونوا لديهم القناعات الخاصة بالثقة بالنفس، وتقدير الذات. 

علينا جميعاً أن نتكاتف لإعداد جيل الأحرار ، لأنه أمر ليس بالهين اليسير ، فإعداد هذا الجيل أمرٌ شاق ٌ ومرهق ٌ ، لأنه يتطلب من الوالدين القائمين على المؤسسات التعليمية بكافة مستوياتها التحلي بالصبر وسعة الصدر ، لأن هؤلاء الأحرار لن يسمعوا أو يطيعوا بمجرد تلقيهم للأمر ” افعل ” ، ولكنهم سيحاورون ، ويناقشون ، ويجادلون ، ويطلبون البرهان وإقامة الدليل وإعطاء الحجة ، ولن يفعلوا إلا ما يقتنعون به ، مما قد يسبب ضجر الآباء والمعلمين ، ونفاد صبرهم ، وتحولهم إلى الأساليب الدكتاتورية التي تقمع وتقهر ، وتجنبهم عناء الإقناع والحوار ، فينحرفون بذلك من إعداد جيل الأحرار إلى إعداد جيل العبيد . هؤلاء العبيد الذين يصبحون مطية سهلة يمتطيها كل مستغل وظالم دون أن يحركوا ساكناً، أو يدفعوا ظلماً، وللأسف الشديد فإن شعار البعض: 

من رضي أن يكون الحمار المسرجا        

فاركبه وإلا صرت الحمار المسرجا

وإلى مقالةٍ أخرى نتابع فيها حلقات هذه السلسلة، أستودعكم الله تعالى. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى