بيني وبين قلبي
منى مصطفى | كاتبة مصرية
تلك المضغة العجيبة التي تسكن الصدر، ولا تتعدى حجم قبضة اليد، وتتحكم في الصحة البدنية والنفسية، بل تتحكم في الحياة كلها!
فما بكى الباكون ولا رقص الراقصون إلا بوازعٍ من هذا القلب المُصَرِّف لصاحبه كيف يشاء، وما طوى المشتاق الأرض طيًا أو حُرم الراحة أرقًا، إلا لإسكات وجيف ذلك القلب…، ويكاد يتمثل لي أنّ كل سوادٍ حولنا ما سوّده صانعُه إلا لإرضاء قلبٍ، أو لمواساته، أو الانتقام له!
ذاك القلب الذي يغادر صدري كل ليلٍ ليذهب إلى أمي، يحادثها ويبث لها أحزانه وأشواقه، ويمني نفسه برؤيتها، ولا سطوة لي عليه، بل له كل السطوة والسلطان؛ فيأخذني لحديثها وأنا طفلة ويُسمِعني تمردي عليها وهي توقظني في صقيع الشتاء كي لا أتأخر على مدرستي، وتسترضيني وتبرر لي بأنها ما هجعت منذ الشروق لتوفر عليّ كثيرًا من الوقت، ورغم ذلك أستمر في تمردي حتى أغادر البيت، يذكّرني قلبي بتلك الصباحات فيعتريني ندمٌ يقرصني، ودمعٌ يحرقني، وأردد: ليتني ما فعلت يا أمي!
ثم يأخذني مرغمة لأول لقاء معها بعد سفرٍ، وهي تبثني لوعتها لفراقي، ومرضها الذي كاد يودي بحياتها مذْ فارقتها، ولا تفلتني عبارتُها: ( بقيتُ طريحة الفراش يؤنبني قلبي: لماذا تركتِ ابنتك تسافر وحرمتِ نفسكِ من باب تطرقينه عليها، وفرحة تملئين بها صدرها وخبرة تضاعفين بها عمرها) أصيخ لكل هذا، فيعتري بدني الرجيف، وأردد: جُعلتُ فداك يا أمي، ليتني ما سافرت!
هنا يرفع الحزن شراعه، ويعيث فسادا في نفسي، فأكاد اختنق من وجدي ولوعتي، فلا أجد من ينقذني إلا الذي أرداني (قلبي) فيعود ليُهدِئ من روعي مذكرا إياي بأنها في جوار الرحمن الرحيم البر الكريم، وأن ما من مؤمن غادر الدنيا إلا وأبدله الله خيرا مما فيها، وأنّه لا يحب أن يعود إليها ولو تمثلت له ذهبًا …!
ألا أيها العنيد الذي تسكن صدري، أتشعلني وتطفئني كيف تشاء، هلّا أقصرت الطرف عني وتركتني في سلام منذ البداية، لماذا تجرني لقطع فيافي الحزن ألمًا ووجدًا وفرقًا ثم تعود لتسكب ماء حكمتك علي!؟
وكأني أسمعه يُحاجِجُني قائلًا: كلما ركنت النفس واطمأنتْ لإيمانها، آتاها اختبارٌ يؤرقها، ويردها لنقطة الصراع الأولى، أتثبتْ أم تكون كمن نقضتْ غزلها من بعد قوة أنكاثاً؟، ومن رحمة الله جلّ وعزّ أنّ الاختبار يكون في مستوى إيمانك لتنجو برحمته، ألستِ منْ تتعبد لربها بهذه الآية ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) ؟ فهذه الآية خطُ سيركِ مع أحداث الدنيا، تظلين بين سلامة واختبار حتى يقبضك الله على ما وقرّ في قلبك …
فأستسلم له وأسلّم مرددة: سبحان من جعلك موضع نظره، وجعل صلاح الجسد والدين في صلاحك، وسبحان من خلقك لنفقه بك، وجعل سلامتك قنطرة العبور لسعادة الدارين، اللّهم حياة كريمة، ومَيْتة كريمة على طاعة وسلامة قلب!