اليساريون و اغتيال اليسار( 3 ـ3 )
توفيق شومان|خبير سياسي واستراتيجي لبناني
إن مراجعة عامة أو تفصيلية لسياسات ” اليسارية الثانية ” ستفضي إلى خلاصة تفيد عن طغيان الإضطراب على مواقف وسياسات وسلوكيات الطور الثاني من اليسار العربي، خصوصا تجاه مسألتين بالغتي التأثير في الوعي العربي العام ، وهما القضية الفلسطينية والوحدة العربية ، إلا ان مرحلة الستينيات من القرن الماضي ، دفعت نحو إنتاج ” يسارية ثالثة ” عملت على مراجعة جذرية تجاه هاتين المسألتين، وبدا ذلك بوضوح من خلال موقف الحزب الشيوعي السوداني منذ عام 1967، حيث غدت الوحدة العربية إحدى ركائز خطابه وأدبياته ، ف ” اسرائيل حصان طروادة امبريالي منذ 1948 ولا يوجد منطق علمي لقيام وطن لليهود في فلسطين العربية ” .
تلك المراجعة ستجد أصداءها أيضا مع الحزب الشيوعي اللبناني بعد مؤتمره الثاني عام 1968 ، وفي ذلك يقول الأمين العام الأسبق للحزب جورج حاوي في تقديمه كتاب “حياة على المتراس” لآوائل الحزبيين أرتين مادويان: إن الحزب الشيوعي اللبناني حسم موقفه من الإنتماء القومي والوحدة العربية مذذاك المؤتمر ، فضلا عن تحديده اسرائيل كقاعدة للإمبريالية العالمية، وهذه الأصداء من “اليسارية الثالثة” أبكر الحزب الشيوعي العراقي في طرق أبوابها و بما يتعلق حصرا بالقضية الفلسطينية، حيث تجاوز الشيوعيون العراقيون مرحلة القطيعة مع أنفسهم عام 1948، وذهبوا في عام 1956 إلى إدانة بيان صادر عام 1948 بعنوان ” ضوء على القضية الفلسطينية ” منسوب إلى قيادي شيوعي عراقي هو يوسف اسماعيل ، كان يقيم في باريس ، ودعا من خلاله إلى عدم القتال ضد اسرائيل وتأييد قرار التقسيم واعتبار منظمتي “شتيرن” وأراغون ” الإسرائيليتين منظمتين تقدميتين .
هل هذا كل شي ؟ لا بالطبع .
إن تلك المراجعات على أهميتها القصوى ، شكلت خروجا واضحا عن إرث الستالينية بعناصرها المصطدمة بالضمير العربي والوعي العام ، إلا أن العناصر الستالينية الأخرى وذات الصلة بالإجتماع السياسي المرتبطة بالإستبداد وعبادة الشخصية وبإيلاء الإسترايجيات الدولية الكبرى أولوية شبه حصرية ومتقدمة على القضايا الوطنية والإجتماعية والمطلبية، جعل من مراجعة “اليسارية الثالثة” غير مكتملة، وبالتحديد إذا ما قورنت مع “اليسارية الأولى” وكونها نقابية ـ اجتماعية ـ ديمقراطية .
إن الثلاثية المذكورة آنفا، والتي أدركها “اليسار الأول” تعيد طرح سؤالين تعريفين على بساط الإبتداء والبداهات :
ـ السؤال الأول: ما اليسارية وإذا شاء البعض ما الماركسية؟
يجيب المفكر المغربي عبد الله العروي على هذا السؤال بالقول :
“الليبرالي يتعرف على الماركسية عن طريق ما سمي في روسيا القيصرية بالماركسية الشرعية وهي نظرية تطورية لا تقر التغيير الفوري والإصلاح القسري، ترى نفسها كنتيجة حتمية لحركة نمو طبيعية تتم كلها تحت ظل الحكم البرجوازي، وفي هذا الإطار تحدد النظرية المذكورة للطبقة الوسطى مكانتها ودورها القيادي والتربوي، تشيد بوظيفتها وتطمئنها على مستقبلها، لا يرى الليبرالي في الماركسية سوى نظرية حول التطور الرأسمالي ” .
ـ السؤال الثاني : ما السياسة ؟
هذا السؤال يطرحه سقراط ويجيب عنه أفلاطون قائلا: “السياسة فن وعلم مثل سائر الفنون والعلوم كالطب وقيادة السفن وسياسة الخيول، فن السياسة يجب أن يتوخى مصلحة المحكوم دون الحُكم ، مثل الطب يتوخى مصلحة المريض والسائس مصلحة الخيول وربان السفينة مصلحة الركاب “.
هل المسار التاريخي لليسار العربي سلك هذه النحو ؟
لم يسلك اليسار العربي هذا النحو في مساره الطويل ، وبالتحديد مع طوريه الثاني والثالث، فالسياسة تجردت من كونها فعلا اجتماعيا إلى كونها قولا مجردا ، قول عام يقدم أولوية الحُكم (السلطة) على المحكوم، والدعوة إلى مكافحة الطغيان في الخارج وممارسة الطغيان بأشد أشكاله في الداخل، ورفع شعار حرية الدولة وقرارها السياسي في مواجهة القوى الخارجية ومصادرة حرية الأفراد داخليا ، وفوق ذلك الذهاب إلى تأويلات لفظية عن الديموقراطية ، ليست ذات معنى على الإطلاق، وفي ذلك كتب اليساري اللبناني جورج حنا في كتاب “عائد من موسكو ” عام 1947 ، فقال :
“إذا رجعنا إلى القاموس، نجد أن كلمة الديموقراطية تعني حكم الشعب للشعب ، واسمح لي أن اقسم العالم إلى جبهتين، الأولى انكلوساكسونية و الثانية سوفياتية ، الأحزاب في الدول إلإنكلوساكسونية تتناوب الحكم، وهذا ما فيه من دكتاتورية الحزب الحاكم ومن تحكُم الأكثرية بالأقلية، وأما النظرية السوفياتية فتقول بالحكم لمصلحة الشعب أكثر مما ترتكز على الحكم بواسطة الشعب، وذلك عن طريق حزب واحد يعمل على تطبيق الديموقراطية لمصلحة الفرد والمجموع، وإذا قارنا بين النظريتين تبين لنا أن كلتيهما قائمة على دكتاتورية حزب شعبي ، ويجدر بي القول إن سكان روسيا بأكثريتهم الساحقة ، إذا لم أقل بإجماعهم ، يماشون سياسة الحزب ومبدئه”.
هل هذه هي فعلا الديموقراطية أم الستالينية التي يرافقها التأويل اللفظي والقول المجرد من المعنى؟
يرد القيادي اليساري محمد دكروب ، كاتب سيرة الحزب الشيوعي اللبناني، على جورج حنا بعد خمسين سنة ، في تقديم الطبعة الثالثة من ” جذور السنديانة الحمراء ” عام 2007، فيقول: ” معظم تواريخ الأحزاب الشيوعية في الفترة الستالينية وما بعدها سواء الحزب الشيوعي السوفياتي أم غيره ـ في جوانبها الأهم ـ هي تواريخ حزب الأمين العام ، والتغييرات التي كانت تجري بين عهد أمين عام وآخر ، كان من أبرز صفاتها، وضع تزويرات جديدة في مكان تزويرات سابقة ” .
وحول آحادية القائد واستفراده وتأبيده أمينا عاما يورد اليساري اللبناني يوسف خطار الحلو في الجزء الثاني من كتابه ” أوراق من تاريخنا ” أن خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني ـ السوري قال له : ” كلامي هو القانون ، والقانون لا يُخالف ” ، وإذ يؤكد خالد بكداش بقوله ذاك تغييب حرية القول والرأي والتعددية داخل الحزب الشيوعي في المرحلة الستالينية ، فإنه يستدرك خطأ التجربة السوفياتية ببعض تفاصيلها ، إنما بعد انهيار الإتحاد السوفياتي ، ففي الحوار المطول الذي أجراه عماد نداف وأصدره بكتاب عنوانه ” خالد بكداش يتحدث ” عام 1993، يقول خالد بكداش :
” لينين لم يكن من أنصار الحزب الواحد ، ولم يكتب أنه يجب أن يكون الحزب واحدا ، لذلك يمكن تعدد الأحزاب ، يمكن التلطيف من المركزية ضمن النظام الإشتراكي “.
السؤال هنا : بعد ماذا هذه الرجوع عن مسار إشكالي رافق الحقبة السوفياتية حتى رحيلها ، وأورثها الدولة المستبدة ـ الأمنية ـ الشمولية ، وإلى مستوى بات من الصعوبة معه تفكيك التزاوج بين اليسار والإستبداد.
تلك إشكالية كبرى مطروحة على اليسار الراهن والطامح إلى تشكيل ” اليسارية الرابعة ” ، وإلى تلك الإشكالية ، تبرز اشكالية ” الدوغما ” والجمود وأدوات التحليل المرتبطة بالأحداث والأزمات على أنواعها واختلافاتها ، وحول ذلك يمكن أن يخط القول بدايته من :
تاريخيا ، أفاض اليساريون قولا بأن الماركسية هي فلسفة لإكتشاف الواقع ومنهج للتحليل وفلسفة للتغيير, وواقع حال المسار التاريخي لليسارية العربية يفيض بشواهد تعاند القول الفائض ، فإذ باليسارية تغدو بنية جامدة وعقيدة دينية مفرطة في الجمود وفلسفة للتبرير، وهنا يتبدى انزياحها عن أصلها إذا أمكن القول، وانتقالها من فلسفة للتحليل إلى فلسفة للتبرير، وهول الفارق بينهما لايحتاج إلى تفصيل مسهب، فالأولى تقوم على الإستدلال والثانية تقوم على الخيال، مما يفقد الثانية، أي فلسفة التبرير كل المقومات العلمية، وإذا جاز التصرف (حتى بالدلالة والمعنى) بما يقوله المفكر اليساري اللبناني مهدي عامل في كتابه ” نقد الفكر اليومي ” ، فإن اليسارية تحولت مع فلسفة التبرير وخيالاتها من منطق الأشياء إلى منطق الإنشاء .
هذا المنطق القائم على مزاحمة الخيال للخيال ، والمفردات للمفردات ، ولغة الإنشاء للغة الإنشاء ، أكثر من يظهر ثقله وعبئه في خطاب المؤامرة اليساري ، ولعل ذلك مستمد من الإرث الستاليني الثقيل الذي طغى على مرحلة ما بعد رحيل فلاديمير لينين ، فبات خليفته ستالين على صراع مع كل من حوله ، فأوغل في تصفية كبار القادة السوفييت ابتداء من تروتسكي ومرورا بزينوفييف وكامنييف وبوخارين وغيرهم ، مما أنتج هاجس المؤامرة الدائمة المتحول إلى نظرية المؤامرة الدائمة المتحولة بدروها إلى فلسفة ظنية قائمة بذاتها ، وانطلاقا من ظنونها يصار إلى الحكم على الأشياء والأحداث والأفعال والأشخاص .
يروي طبيب الكرملين الخاص الدكتور يفغيني شازوف في مذكراته المعروفة بعنوان “الصحة والسلطة” وقائع من “فلسفة الظن” التي كانت تستبد بقادة الإتحاد السوفياتي فيقول: لما أبلغت مدير الإستخبارات السوفياتية يوري اندروبوف (1914ـ1984) بالحالة الصحية المتردية للأمين العام للحزب الشيوعي ليونيد بريجينف ، خشي اندروبوف مصارحة بريجينف بوضعه الصحي السيء، وحين أبلغت بريجينف بحقيقة مرضه طلب مني إخفاء الأمر عن أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي وعن أجهزة الإستخبارات السوفياتية عامة.
وفي رواية ثانية يقول الطبيب شازوف: كان فيلسوف الحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل سوسلوف (1902 ـ 1982) لا يثق بأحد حتى بالأطباء ، وكذلك الحال مع زوجته المرتابة من كل شيء والمهجوسة بكل شيء ، وحين تم تشخيص أمراض سوسلوف وبأنها ناتجة عن تصلب شرايين القلب وقصور في الدورة الدموية التاجية ، رفض سوسلوف الإعتراف بمرضه وأصر على أنه مصاب بإلتهاب أوتاد عضلاته، وأبى تناول العقاقير اللازمة، ومع تكرار إصابته بالذبحات الصدرية وظهور بؤر احتشاء في عضلات القلب ، تم خداع سوسلوف وإعطاؤه العقاقير نفسها بعد تحويلها إلى مراهم.
إن ” فلسفة الظن ” التي شكلت عماد النظام السوفياتي وفلسفته السياسية ـ الأمنية ، انقلبت سياسات ظنية ـ مؤامراتية على السلوك السياسي لأغلب اتجاهات اليسار العربي ، ولذلك باتت القومية العربية في مرحلة قبيل وبعيد الإستقلالات القطرية “قومية برجوازية منحازة إلى الغرب”، وغدا حزب ” الوفد المصري ” بزعامة سعد زغلول ” عميلا ” لحكومة صاحبة الجلالة في لندن، وأضحت الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى حربا أشعلها الإستعمار لخدمة الأنظمة العربية العميلة لبريطانيا، وتحول مشروع سوريا الكبرى مشروعا امبرياليا انكليزيا ، وأصبحت الوحدة العربية مشروعا أميركيا لأن انقلابيي 23/ تموز يوليو في مصر أميركيو المزاج والإتجاه، وهذه القراءة السياسية القائمة على “فلسفة الظن استمرت تنهل من حروفها وأبجديتها حتى عام 2011 مع انطلاقة موجات الإحتجاجات الشعبية العربية، واعتبارها من قبل غالبية اليسار العربي مؤامرة من صنيعة الغرف الخارجية المغلقة وعملياتها السوداء .
في حصيلة لما سبق ذكره ، سيُلاحظ أن اليسارية العربية سلكت في مسارها الطويل طريق الإصطدام مع البيئات الشعبية وحيوياتها الحركية والمتفجرة ، فواجهتها وعاندتها بدلا من أن ترى فيها “لحظة تاريخية” نحو الإصلاح السياسي والتغيير الإجتماعي.
وعلى ذلك ، فقد استقرت مجموعة صور عن اليسار في الإدراك العربي العام ، يمكن تلخيصها بالتالي: صورة الدعوة إلى الإستبداد والدولة الشمولية بنموذجها الستاليني ـ صورة النقصان القومي ـ صورة التشكيك النضالي ـ صورة الحرس العقائدي للأنظمة العربية ـ صورة اللاتطور الإجتماعي والإقتصادي مقارنة بين روسيا السوفياتية والغرب الرأسمالي.
الصورة الأخيرة التي تحدث عنها عبدالله العروي مثلما سبق القول، كان قد مهد لها المفكر الإقتصادي من أصول نمساوية جوزيف شومبيتر بكتاب فائق الأهمية عنوانه “الرأسمالية والإشتراكية والديموقراطية ” صدرفي عام 1942 حيث يقول: “الإشتراكية الجدية لا تنشأ إلا من خلال رأسمالية مكتملة النضوج، وكل ما نعنيه بالسير نحو الإشتراكية هو ترحيل شؤون الشعب الإقتصادية من الدائرة الخاصة إلى الدائرة العامة”.
لم يتحدث شومبيتر عن نظام الحزب الواحد ، ولا عن مصادرة السياسة ، ولاعن حصر الإشتراكية بالعمالية والبروليتارية ، ولا عن دولة شمولية وأمنية ، فالمقولة الإشتراكية لديه هي نتاج نضوج الرأسمالية التي تنتج وعيا ثقافيا جديدا هو الفكر التعاوني الذي يحل محل الفكرالرأسمالي، وبهذا المعنى تكون الإشتراكية هي التعاونية الذي كان أشار إليها بوضوح أحد اليساريين الآوائل المفكر اللبناني نقولا الحداد في عام 1920في كتابه “الإشتراكية”، وكما فهمها المفكران المصريان سلامة موسى ومحمد عبد الله عنان في الربع الأول من القرن العشرين المنصرم.
تلك هي إشكاليات اليسار العربي ، وخلاصتها اثنتان : الثقل الستاليني والبلشفي وإعادة تعريف اليسار والإشتراكية.