أوترانا لم نَمُتْ؟

رضا راشد | باحث في البلاغة والأدب بالأزهر الشريف

إذا رانت الغفلة على القلب، تكاثر ت في سمائه غيومها ، فتحجب عن عيونه شمس الحقيقة فتتراءى له الدنيا في برق خُلَّبٍ وزينةٍ مصطنعةٍ ؛ فإذا هو لاهٍ مع اللاهين ، عابثٌ مع العابثين، مغرورٌ بالدنيا، آنسٌ بها ، مطمئنٌّ إليها ، يحطه ليل ويقله نهار دون أن ينتبه ، وتتعاوره الليالى والأيام بالبأساء والسراء ، والفرح والترح ، والغنى والفقر ، والصحة والمرض، وهو على غفلته لا ينتبه ، في سباته لا يستيقظ ، حتى إذا ما رماه الدهر بسهم نافذ من سهامه فأصاب منه حبيبا أو انتزع منه عزيزا، استيقظ منه ما كان نائما، وانتبه منه ما كان غافلا، وانقشعت سحب الغفلة من سمائه، فسطعت شمس الحقيقة وسلطت أشعتها على الدنيا؛ فأذابت وأزالت ماكانت به تتجمل في عيون عشاقهامن أصباغ ومساحيق، فظهرت له الدنيا على غير ما كان يتوهم : دار إذا حَلَتْ أَوْحَلَتْ ، وإذا كست أوكست ، وإذا أقبلت بلت ، وإذا أدبرت برت ، وإذا أحسنت أساءت ، وإذا أعطت انتزعت ، بل يمتزج إحسانها بإساءتها ، وعطاؤها بمنعها .

فياليت شعري : 

ما فرح العاقل بعطائها وهو موقن أنه تمهيد للسلب ؟! أما أحرى بالكيس الفطن أن يساوره القلق والخوف والتوجس والريبة إذا فتحت له الدنيا أبوابها ومدت له ـ محتضنة ـ ذراعيها !!!

نُكِبْتُ بفقد الأحبة ممن طالت معايشتى لهم وأنسي بهم ومن كانوا سر سعادتى فيما مضى من أيامى التى نسميها نحن (العمر) ، فرحلوا وعشت ، وذهبوا وبقيت ، لا إلى خلود، بل إلى انتظار لموعد رحيلي إليهم 

في كل مرة يرزؤنى (أي يصيبنى ) الدهر بفقد حبيب تتقافز السؤالات على أسلات اللسان بعدما باتت منقوشة على صفحات الجنان :

متى الرحيل ؟ وأين الرحيل ؟وكيف الرحيل ؟

 متى الرحيل ؟

 ليس تعجلا للموت بل إشفاق منه وخوف .

متى الرحيل ؟ أبعد زمن قصير أم طويل ؟

وما الفرق ؟ 

أليس كلُّ ما هو آتٍ قريبا؟

ألم تَرَيْ ( يا نفس ) إلى من عُمِّروا طويلا كيف بدت لهم  أعمارهم في ختام حيواتهم كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ؟

(*) متى الرحيل ؟ 

أفى شرخ الشباب؟ أم في ضعف الشيخوخة ؟ وهل من مزية لهذا على ذلك ؟

(*) وأين الرحيل ؟ 

أغريبا بعيدا؟ أم ثاويا مقيما بين الأهل والأحباب ؟

سؤال مهما حاولت البحث عن إجابة له يأتـى قوله تعالى :  ( وما تدري نفس بأي أرض تموت ) ليقطع عليَّ كل أمل في الوصول إلى شيء ، ثم أسائل نفسي : وماذا يعنيكِ من المكان، وآنئذ يستوى عندك كل مكان وكل زمان؟

(*)وكيف الرحيل ؟

كيف القدوم على الله عز وجل ؟

أسليما ام مريضا ؟ أمعافى أم سقيما ؟ وهل من فرق ؟

أيكون اللقاء فجأة ؟ (نعوذ بالله من ذلك ) أم تكون هناك رسل ونذر ؟

أيكون كقدوم العبد الآبق على سيده ينتظر العقاب ؟ عياذا بالله من ذلك أم كقدوم الغائب من سفر بعيد على أهله مرحبا به محتفى بقدومه ؟ ؟

هل يمكن أن تكون دعوة بحسن الخاتمة قد فتحت لها أبواب السماء فكانت كنز سعادة مدخرا إلى يوم الرحيل ؟ نسأل الله ذلك . 

هكذا تترادف على الأسئلة كلما فقدت حبيبا أو سلبت عزيزا ، 

لكننى فجأة استفقت مستنكرا على نفسي سؤالها قائلا : 

ماذا دهاك أيتها النفس المغرورة ؟ تسألين عن الرحيل وكأنك لم ترحلى ؟!! وتستفهمين عن الموت وكأنك لم تموتى؟!

كأنك تتوهمين أيتها النفس أن الموت ما هو إلا انتزاع الروح من الجسد ساعة الغرغرة ليبقى بعده الجسد جثة هامدة لا تتحرك ، ساكنة لا تتكلم ؟هل تظنين أن الحياة مجرد قلب ينبض أو نفس يتردد في حطام جسد قد تكاثرت عليه سهام الدهر، وأن الموت فقدان ذلك ؟ لقد تمادى بكِ الوهم كثيرا حتى ظننت حياة ما ليس بحياة 

هل الحياة إلا سعادة القلب برضا الرب، وانتشاء الفؤاد بلقيا الأحبة ؟فإذا ما ابتلي المرء بفقد ذلك كله أو بعضه كان ذلك نوعا من الموت؟

أليس المرء يدفن بعضا من حشاشة نفسه كلما دفن حبيبا له ؟

ماتت الأم أولا؛ فمات بموتها نبع الحنان ومورد الحب ودفء العاطفة.

وماتت الأخت؛ فمات بموتها حكمة العقل مشوبة بحنان القلب 

ثم مات الأب؛ فمات بموته الردء والسند.

ومات الشيخ؛ فمات بموته علم غزير ،وحكمة بالغة.

ومات الأخوال والخالات ؛ فمات بموتهم بقية من رائحة الأم كنت أتعزى بها عن فقدها رحمها الله

ومات الصديق؛ فمات بموته سعادة اقتنصت من الدهر في أيام لنا مضت. 

ومن لم يمت في باطن الأرض فقد مات على ظهرها بما أطاع من هوى نفسه الأمارة بالسوء؟

وإذا كان ذلك :

 فما بالكِ يا نفس تتساءلين عن الرحيل وقد رحلت برحيلهم ؟!! وما شأنكِ تستفهمين عن الموت وقد مُتِّ بموتهم ؟

هل بقى من معنى الحياة إلا نفس يتردد في بقايا حطام جسد ؟ وهل بقي من معنى الموت إلا توقف هذه الأنفاس ؟ 

ألم تعلمي يا نفس هذه الحقيقة من قبلُ ؟ أم أن تشبثكِ بالدنيا جعلك ترضين بالقليل من معنى الحياة وتتغافلين عما أصابك من الكثير من معنى الموت ؟

أفبعد ذلك نتوهم أننا لم نَمُتْ ؟وأننا عن الدنيا لم نرحل ؟ بلى: رحلنا برحيل الأحبة، ومتنا بموتهم وإن أوهمتنا نفوسنا خلاف ذلك .

فلا تغتري يا نفس بالدنيا؛ فعما قليل سترحلين الرحيل الأ بدي، ولا تركني إلى الدنيا، ففي القريب ستغادرين، واعتبري بمن سبقك من الدنيا ارتحالا 

وتأملى قول أبي الطيب :

سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها

 منعنا بها من جيئة وذهوب 

تملكها الآتى تملك سالب 

وفارقها الماضي فراق سليب.

فاللهم أحسن عليك قدومنا ولا تعلق بالدنيا قلوبنا ، وارحم ضعفنا ، واستر عيبنا وتجاوز عن سيئاتنا ؛ فما عصيناك ( ربنا ) جرأة عليك ولا استهانة بوعيدك بل ضعف منا فارحم اللهم ضعفنا واجبر كسرنا. اللهم آمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى