أحرقتُ حقائبي ( قصة قصيرة )
منى مصطفى | تربوية وروائية مصرية
عهدتها ذات عقل يتسعُ للعالم كله، لم تكن يومًا تلك الفتاة منزوعة الهوية التي تحيا بالمتاح، بين جوانحها قلبٌ متقّد، يملأ السماء طموحًا، ويرسم كل ليل حول النجوم آمالا، فيأتي نور الصباح يسقيها، فتفرح، وتطلق عنان أحلامها لأبعد آفاق…، ثم تهبط للأرض، فتجد الواقع يهدر، ويُخرج لسانه لها ويقول: عيشي على الأرض معنا، ما ترقمينه حول النجوم لن يكون!
فيهمس يقينها: بل سيكون بإذن الله!
وتبتسم ابتسامة رضا؛ فالذي يملأ قلبها نور الإله العلي القدير، وكل كائن جواره فقير عليل.
وكانت ذات همّ، فلا تسير كما تسير الأخريات، تركض كأنها ما تركت لغيرها من الدنيا شيء، ثم تراها تبتسم وتبذل كأنها استغنت عن كل شيء! تحب الفاكهة في أوانها وتقول: التعجيل بما ليس منه بد هو عين الحكمة وإنقاذ العمر، عاشت في عُش صغير، تقسّم المال بين الخبز والورد، ورُزقت صبيًا، فكانت تحيي فيه الجهاد، وتلقنه الشعر، ثم ثلاث مؤنسات تسكنهن غرف القلب.
يا إلهي، هؤلاء الأربعة رزق عظيم، أطمح في بيت لهم بديلا عن العش، يكون للصبي عونًا وللمؤنسات أمنًا، وذلك مكلف!، لكنه لا يكثر على الله الكريم!
برق في وجدانها جَلَدُها، وقوة عزمها أيام كانت تخطو بأقدامها بين السحب، فشدت نطاق العزم، وعاشت عمرها في حقيبة، نعم في حقيبة! تضع نصف متعاها في حقائب؛ تيسيرا للتنقل المفاجئ في بلد ليست بلدها، ثم تعود لبلدها، بحقائبها الأربعة، وتنادي صغارها: لا تفرغوها، سنبقى هنا أسبوعًا وعند جدكم الثاني أسبوعين، حتى يكون لنا بيت، وهكذا مرّ الوقت، ولأن الحقائب جامدة كالحياة بلا وطن، لا ترسم أملًا ولا تمحو ألمًا، فمقتتها مقت الطغاة للعدل، والفاروق للظلم…
وفي ليلة باردة مثل برودة الواقع الذي يخنق آمالها؛ وكلما اختلقت نافذة أمل وضع عليها سبعة أقفال، واساها الله بالمطر، فأحيا الأرض، وبذر فيها جنين الحب، وإذ بإحدى أمانيها التي كانت تنقشها حول النجوم يرسلها الله مع المطر؛ لتنبت وتزهر، فاشتعلت روحها بعد فتور، وهتفت: لن تأسرني الحقائب، سأعود لنفسي التي كانت، سأرقم من جديد على النجوم، لقد أزال المطر أدران السنين، وأغرق المغتصبين
بدأت وأسرتها تواصل الليل بالنهار، تصلي الفجر وتذهب للعمل، ثم تعود لصغارها بالورد والشوق، تتابع تفاصيل يومهم، ثم تطعمهم حبها والغذاء، تتركهم في قيلولة قصيرة تنهي خلالها كل التزاماتها، ثم تعلمهم وتؤدبهم…، وفي العاشرة مساء تنهي واجباتهم، وتحضّر جداولهم، وتمشط شعورهم، وتنسق جواربهم وتعد العصير والماء للصباح، ثم تطعمهم حبها والعشاء …، تذهب لفراشها تستغفر ربها، وترقم أمانيها حول النجوم حتى تغفو، ليبدأ يوم جديد …
ومع الوقت أتمت البيت، فتنفست الصعداء، وفي حفل بهيّ شهدته النجوم التي كانت ترقم حولها، وباركه كل من كان يحبها، ويألف روحها، أحرقت الحقائب كلها!، فقد سئمت جمودها وضيقها، وقد بارك الجميع شجاعتها في حرقها، فقليل من يستطيع التخلي عن سجنه! وبدأت تحلم بليالٍ هادئات، ورواق جميل للصديقات، سوف تذهب لأهلها أخيرا بلا حقائب فقد صار لها بيت …
ولأنها لا تعرف الخيانة فلم تفترض وجود الخائنين، ولكن هيهات أن يؤتمن الجميع، فهناك غراب يمقت التغيير، ويحارب كل جميل، كان يرقبها ويقرأ ما ترقم، ويتابع ما تبذل، ويخطط: متى ينقّض على أحلامها، فما إن تركت العش وذهبت للبيت إلا وملأ قلبه الحقد، كيف تمتلك بيتًا، ولماذا لا تكتفي بالعش، اجتمع بأهل الشر من ثعابين وحدآن ومن سحرة وشُرَط ولم ينسَ جنده من أهل الطيلسان، وفي محفلهم الذي لا يملكون فيه إلا التصفيق له ـ وإلا أحلهم دار البوار ـ أجلسهم كضباع ينتظرون بقايا اللحم النتن، ثم عبس وبسر، وأدبر واستكبر، ثم قدّر، فقتلها حيث قدّر، نعم قتلها؛ إذ هدم البيت ونقض العش، وبعد أن شفى حقده، استدار على أعوانه ولم يكفه ذلهم، ففقأ عين الحدأة، ونزع سم الحية، وكسر عصا السحرة، وشرب نخبًا مع أهل الطيلسان …، ولسان حاله يقول: لا أعوان لي إلا نفسي، والموت الأسود لكل من قضيت منه وطري!
ما كان حزنها على ما هدم وما نقض، بل على عمرها الذي ذهب، ونظرها الذي قصر عن رؤية النجوم لترقم من جديد، وكلما راودها أمل في قناص شريف يغرس سهمه في قلب الغراب خبا الأمل؛ فالغراب اقتلع الشجر كي لا تُبرَى سهام ولا قسِيّ، كما رفع القلم كي لا يسود إلا عييّ …!
بقيتْ بين يأس تقتات القهر، وبين رجاء تلوّن الوهم، وبقي الغراب ينتفش وينتفش ويضاعف ريشه، فعمي بصره إلا عن نفسه، وعمّ الخراب وصارت الأرض بلاقع لا تمسك ماء ولا تنبت عشبا!
تُرى: أيموت جوعًا أم على الدماء يقتات؟ أنعيد بناء البيت أم مصيرنا العراء؟