رسالة من القدر

هيثم الأمين/ تونس

لم أنتبِه، في البداية، إلى هذا الكمّ الهائل من الحشرات في هذه الغرفة الضّيّقة ! كان الأمر مفزعا و أنا أراها تدبّ على جسدي العاري تماما! و لكنّ الأكثر قرفا كان رائحة كريهة خالطتها رائحة عطرة هي، على الأرجح، رائحة المسك!

رائحة المسك، بطبعها، تحدث لي الغثيان و صداعا شديدا، فما بالك و هي ممزوجة بهذه الرائحة الكريهة التي قد تكون لجثّة ما في زاوية من زوايا هذه الغرفة!

يبدو سقف الغرفة، البدائيّ، قليل الارتفاع؛ حتّى أنّه خُيّل إليّ، رغم قصر قامتي، أنّي إن مددت يدي فسألمس السّقف دون عناء! كانت الرّطوبة كثيفة في كلّ الغرفة و كأنّ نهرا مرّ من هنا قبل قليل!

الحشرات، الروائح، الرطوبة و ثرثرة و قهقهة ليستا بعيدتين كلّ هذا أصابني بالقرف و الجزع و لكن لا شيء كان يتحرّك فيّ إلّا بؤبؤا عينَيَّ مع وجع لا يحتمل على مستوى الرّأس!

لا أعرف أين أنا، بالضبط! حاولت، جاهدا، تذكّر ما حدث و كيف أتيت إلى هنا؛ و لكن دون جدوى! فصرخت و لا أدري إن كان، حقّا، لصراخي صوت أم أنّي كنت أتوهّم! ! ! و هذا العجز التامّ عن الحركة زاد الأمر سوءا بالنسبة لي…

لا أدري كم مرّ من الوقت حين سمعت صوته، الذي أعرفه جيّدا و الذي استغربت حضوره هنا، يناديني:

-يحيى، استيقظت، أخيرا، بني! كم اشتقت إليك أيّها الولد المشاغب…

نعم؛ إنّه هو، فعلا! جدّي المرحوم الحاج مسعود العيّاش! ! ! ! ! ! !

كان يقف عند رأسي عاريا، تماما! و لم يكن أمر العري يحرجني أو يحرجه! مازال يحمل تلك الابتسامة الغريبة التي أعرفها و لكنّه فقد عينه اليسرى و رجله اليمنى و مع هذا لم يكن يعاني من مشاكل في النّظر أو في المشي!

لقد ضمّني، طويلا، بعد أن ساعدني على الجلوس و رغم كلّ تلك المشاعر المتناقضة التي كنت أشعر بها لم أكن قادرا على البكاء و لا على الفرح!

دقائق و دخلت جدّتي الحاجّة مبروكة بنت “الكابورال” ، دون عكّاز و دون نظاراتها الـ”قعر دبوزة”! لقد اندفعت نحوي و عانقتني و هي تردّد:

-ياااااااااا وليدي، مازلت صغيّر، آش جابك لهنا! !

و لكن، كعادته، نهرها جدّي قائلا:

-سيبي الولد، خليه يرتاح السّاعة و إنت ما تعرفي كان تجوّحي و تنوّحي سوا هنا و إلّا غادي.

صدقا، لم يكن الأمر ممتعا و أنا أجالس هاذين الميّتين! و مع هذا لم يطل الوقت لتمتلئ الغرفة بكلّ الموتى الذين أعرفهم! كان الجميع عراة و كأنّ العري هو الأصل و ليس لبس الثياب! ! !

لقد عانقني الجميع و قبّلوني و الكلّ يسأل عن أقاربه العالقين في الحياة! في الحقيقة، لهذا أكره المناسبات العائلية!

جدّتي كانت تسأل عن كلّ شيء؛ سألتني حتّى عن نعجتها العرجاء ماذا حلّ، بها، بعدها و قد وصفت أبي بـابن الكلب حين أخبرتها أنّه ذبحها في اليوم الثالث لموتها من أجل اطعام الحضور

-ولد الكلب ناقص فلوس هو حتى يذبح لي نعيجتي! أمّك راهي تاكل و متشمتة و تقول الله لا يرحمها ؟!!

جارنا، عبد الكريم المشحاح، كاد يجنّ حين أخبرته أنّ ابنته صارت تزن ثمانين كيلوغراما و أنّ ابنه، بعده، قد باع الزيتونة، محلّ النّزاع بين المشحاح و أبي، لأبي و أنّه قد اشترى بثمنها درّاجة ناريّة تمّت سرقتها، منه، بعد أسبوع.

عمّتي سالمة، التي أكرهها لأنّها كانت تسرف في تمطيط خديّ كلّ ما تسنّى لها ذلك، لم تنس عادتها السيّئة

و سألتني و هي تمطّط خديّ:

-مكبوب السّعد، عمّك الشّريف، عرّس بعدي؟؟؟

فأجبتها متشفّيا:

-أي عمتو؛ عرّس بناجية بنت صالح الحوّاف.

كان الأمر صدمة لها و لكن هي من سألت و أنا أجبت لا غير ههههههههههه.

جدّي، الأكثر نباهة بين الجميع، لاحظ أنّي أبحث عن شخص ما بين كلّ هؤلاء الموتى فسألني:

-يحيى، هل تبحث عن شخص ما؟!

-نعم يا جدّي، أبحث عن وردة بنت جارتنا نادية!

– وردة ليست هنا يا بني؛ إنّها في الجنّة.

-في الجنّة؟!!!!!!!!!! إذن أين نحن يا جدّي؟؟؟؟؟ !!!!!!!

تنهّد جدّي و قال:

-نحن، يا بني، مشرّدون. لا الجنّة تقبلنا و لا يحقّ لنا العودة إلى الحياة! نحن خارج الوقت و خارج المكان، تائهون إلى أن يشاء الله.

-و لكن… جدّي… لماذا لا يجوز لنا دخول الجنة كوردة؟؟!!!

-آآآه يا بني، تلك ضريبة المعرفة

و سكت.

وردة فارقت الحياة في عمر الستّ سنوات؛ لقد كانت الطفلة الوحيدة التي يسمح لي باللعب معها و كنت أحبّ اللّعب معها رغم أنّي كنتُ أكبُرها بثلاث سنوات!

في الحقيقة، أنا من قتل وردة! مزحة ملعونة كلّفت وردة حياتها و كلّفتني الكثير من الخوف و من الكوابيس و تأنيب الضمير الذي كان يكبر معي كلّما تورّطت في فهم الأشياء أكثر…

كانت عشيّة يوم أحد، قبل تسع سنوات، حين أحضرت لوردة قطعة قماش بيضاء، كبيرة نسبيا، و رسمت عليها بطبشور أحمر شكل قلب. لقد أخبرتها أنّي، كلّ ليلة، أتمتم على قطعة القماش “أحبّك وردة” ثلاث مرّات ثمّ ألبسها كرداء “باتمان” و أقفز، بها، من فوق حوشنا فأطير و أنقذ المدينة من الأشرار.

و أمام دهشة وردة الصغيرة وشوشت لها مازحا:

-أنت، أيضا، يا وردة باستطاعتك الطيران بهذه القطعة من القماش. كلّ ما عليك فعله هو أن تمتمي ” أحبّك يحيى” ثلاث مرات ثم ترتدينها و تقفزين من مكان عال.

و لكنّي، قبل أن أتركها، أقسمت لها أنّي كنت أمزح و حذّرتها من أن تجرّب الأمر. في اليوم التالي، وجدوا وردة مهشّمة الرّأس و هي ترتدي تلك القطعة من القماش المشؤومة! قالوا إنّها، على الأرجح، قد قفزت من شبّاك العليّة الذي وُجد مفتوحا و بقربه كرسي يبدو أنّ وردة قد استعانت به للصّعود إلى الشّباك! !

يضجّ كلّ الموتى من حوالي و يجزعون من صيحة مدويّة؛ حتّى أنّ المشحاح، من فرط جزعه، تبوّل على وجهي! !

في الصّيحة الثانية، فرّ كلّ الموتى و تركوني وحدي! !

-هل حان موعد حسابي؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!

في الصّيحة الثالثة، كان الصوت جليّا و مفهوما:

-نوض يا بغل، المغرب يذّن

-…

-ينعنبوك نوض، يا خميرة النوم، يا قِلْ أندادك

-…

-نوض اشري لي الدخّان يا كلب يا ولد الكلب، هاو الفلوس فوق الطاولة، يا زوفري كان جات الدنيا دنيا راك انت تصرف عليّا، عنبو ها الضنوة الفاسدة

إنّه أبي! و حتما، هو آذان العصر و ليس آذان المغرب كما يدّعي. تمكّنت، بعد ربع ساعة، من النّهوض و قد كنت منهكا جدّا جسديا و نفسيّا من الكابوس الذي رأيته و حاولت جاهدا تفسيره و لكنّي لم أنجح؛ طبعا، دون أن يتوقّف أبي- الجالس في ركنه، في الحوش، و أمامه علب البيرة الباردة كما هي عادته كلّ عشيّة- عن شتمي و قد سمعته و أنا أغادر يصرخ:

-صالحة.. ياااااا صالحة، جمعة و انت تصلّي في العصر! ! !

-…

-يااااا مراااااااا…. ياااااا خرااااااااااا…. يزّيك ما صلّيتي و تعالي حضري لي الكمية1

هكذا يبدا أبي سكره، كلّ عشيّة، يكيل الشّتائم للجميع و يغنّي و في النهاية يبكي كثيرا ثمّ ينام!

كنت أقلّب في هاتفي الذّكيّ حين التفتّ لأتبيّن سبب تلك الفرملة العنيفة جدّا و أنا أعبر المُعبّد نحو ضفّة الرّصيف الأخرى….

1 الكمية كلمة عامية تعني الطعام الذي يقدّم مع المشروبات الكحوليّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى