قراءة في رواية الأديب المقدسي عارف الحسيني “حرام نسبي”
ديمة جمعة السمان | القدس العربية – فلسطين المحتلة
بين الحرام النّسبي والعيب النّسبي
خطّ عارف الحسيني روايته من منطلق إيمانه باهمية دوره. وثقته بقدرة قلمه على إيصال صرخة المقدسي إلى العالم. صدرت رواية “حرام نسبي” للأديب المقدسيّ عارف الحسيني عام 2017 عن دار الشروق في رام الله وعمّان، وتقع في 312 صفحة من الحجم المتوسّط.
“حرام نسبي” عنوان رواية مثير للجدل، هل قصد الروائي حرام نسبي أم عيب نسبي؟ الحرام له علاقة بالدين، فالحلال بيّن والحرام بيّن، أمّا العيب فله علاقة بالمجتمع وثقافته، فتنطبق عليه النسبية وفق المجتمعات وتطورها وحضارتها واعتقاداتها وعاداتها وتقاليدها. وقد أحسن الكاتب اختيار العنوان الذي بالتأكيد يفتح بابا للنقاش من الصعب اغلاقه، وهذا يسجل لصالح الروائي وروايته.
الرواية هي جزء ثانٍ من ثلاثية، كان جزؤها الأول بعنوان ( كافر سبت)، ففي الجزئين لم يكتف الحسيني بالحديث عن القدس بشوارعها وأزقتها وعاداتها وتقاليدها ولهجتها، بل تحدث أيضا عن نسائها وطقوسهن، وعن شبابها المثقفين الذين يعيشون ازدواجية لا يحسدون عليها، فهم يؤمنون بشيء ويمارسون شيئا آخر، فموروث العادات والتقاليد لا زال يحكم.
تطرق الكاتب إلى ظروف القدس الاستثنائية، إلى عزلتها عن أخواتها من المدن الفلسطينية الأخرى، لامس ألمها، ولكنه لم ينس أملها، صوّرها بليلها ونهارها، وبالمتناقضات التي فرضت نفسها عليها وعلى مواطنيها، وثّق ما يحاول الاحتلال محوه مع الزمن. لم يكتف بأن يدخل القاريء البيت المقدسي الفلسطيني ويطلعه على عاداته وتقاليده، بل مسك بيد القاريء وأدخله بيت المحتل وعرّفه على عاداته وتقاليده ومعتقداته كيهودي، نصّب نفسه سيّدا، وآمن بأن الله خلق البشر جميعا ليكونوا عبيدا له.
خطّ الحسيني روايته من منطلق إيمانه بأهمية دوره، وثقته بقدرة قلمه على إيصال صرخة المقدسي إلى العالم. بادر في طرح قضية القدس التي من الصعب أن يستوعبها أو يشعر بمرارتها سوى من يعيش داخل المدينة المقدسة بتفاصيلها المعقّدة.
ما فاجأني حقيقة أن معظم الرواية جاءت على لسان امرأة، مع أن الرّاوي هو رجل. أفهم أن يتحدّث (الراوي الرجل) بلسان امرأة عن الواقع المعيشي في داخل مجتمعه بشكل عام، وهو بذلك يكون ضمن منطقة الأمان، أمّا أن يغوص في داخل النفس الأنثوية وأحلامها، طبيعتها الفسيولوجية والسيكولوجية والتقاط أحاسيس معينة والحديث عنها بهذا العمق وهذا الاتقان! فهذا لا شك أمر يحسب لصالح الكاتب. فالأمر ليس سهلا على الاطلاق، فمن المعروف أنّ التركيبة الفسيولوجية والسيكولوجية للمرأة تختلف كثيرا عن الرجل، وقد يكون هذا الاختلاف هو السبب الحقيقي وراء الخلافات الزوجية التي تؤدي إلى فشل العلاقة بينهما، وقد ظهرت مؤخرا ظاهرة الدورات المصممة من قبل علماء متخصصين بعلم النفس للجنسين؛ لدراسة طبيعة الآخر للحد من نسبة الطلاق التي ارتفعت نسبتها كثيرا في الآونة الأخيرة، مع العلم أن الحسيني متخصص بعلم الهندسة والفيزياء البعيد كل البعد عن علم النفس.
ما لفت نظري في الرواية أن الكاتب كان يكتب المشهد مرتين، الأولى من وجهة نظر الشخصية الأنثوية، وفي فصل آخر يعيد كتابة المشهد من وجهة نظر الشخصية الذكورية. وقد نجح بذلك أن يعطي كلا من الجنسن حقه. كان كل مشهد بوجهين، يحمل بعدا ثنائيا، فكنا نتعاطف مع الأنثى في المشهد الأول، لنكتشف عند الاطلاع على الوجه الآخر أننا ظلمنا الرجل. فنتوه بين الوجهين؛ لنخوض في جدال يعمّق رؤيتنا للمشهد، لنكتشف أنّ الأنثى والرجل سويا كانا ضحية الاحتلال.
حورية.. كانت تمثل شريحة من النساء المقدسيات.. مثقفة.. تحمل شهادة جامعية تعمل بها في مجال الاعلام المكتوب، معتدة بنفسها، ترفض أن يدوس كرامتها أي رجل، حتى ولو كان حبيبها.
كما كانت سميرة تمثل شريحة أخرى منهن، الشخصية الضعيفة المستكينة الخاضعة لزوجها كروم.. الذي يدوس على كرامتها وهي راضية بذلك غير معترضة.
وهناك رقية الانسانة البسيطة التي تعمل عند صاحب المصنع اليهودي، تركض خلف لقمة العيش، وتؤمن بكل ما يقول وليّ نعمتها، فهو العلّامة ومصدر المعلومات المؤكدة مهما كانت، وفي الوقت نفسه تكون ضحية استيلاء المستوطنين على منزلها وترحيلها من الحي.
أمّا ( هو)، فقد كان يمثل الرجل المقدسي الفلسطيني التائه، فهو المثقف والمناضل الذي لم يجد له مكانا يحتويه. ولا عملا يجد نفسه فيه بعد خروجه من المعتقل، بقي في عزلته حتى آخر أيامه، لذلك استصعب الكاتب أن يطلق عليه أي اسما، فبقي “هو”.. هو الرجل الذي تاه بين حبه وكبريائه وكرامته وقناعاته ونضاله وعلمه والجري خلف لقمة العيش، يتأرجح بين ما يؤمن به وما يفرضه عليه مجتمعه من عادات وتقاليد زرعته فيه ثقافته، فنمت في كل خلية من خلاياه وكبرت، ليعيش ويموت وهو غير راضٍ عن نفسه وعلى كل من حوله.
أمّا نبيه فهو يمثل شريحة متواضعة جدا من الرجال المقدسيين.. لذلك استحق أن يطلق عليه اسم “نبيه”
وينتهي الجزء الثاني من الثلاثية ( حرام نسبي) نهاية مفتوحة، تزيد من تشويقنا إلى الجزء الثالث والأخير الذي سيتحدث عن مرحلة نعيشها حاليا، تصنعها يوميات المواطن المقدسي. ويوثقها عارف الحسيني بقلمه الذي يحمل نكهة العارف بخفايا الأمور، فهو المواطن الشاهد على ما يجري، علّ الأيام القادمة تحمل في طياتها القسم الأكبر من الأمل والتفاؤل والسعادة، يستعين بها أحفادنا ليعيشوا حياة أكثر أمنا وأمانا.