طوبى للشعوب الثائرة.. برفقة الشيخ إمام وفاليري جيسكار دستان
شوقيه عروق منصور | القدس العربية – فلسطين
الأبواب المنسية تفتح فجأة، لعنة السنوات تنحني وتعتذر لأن الذاكرة تهرول نحو الخيانة والدفاتر القديمة أصابها العطب، لكن صورة الرئيس الفرنسي السابق “فاليري جيسكار دستان ” 94 عاماً” الذي يتلقى العلاج هذه الأيام في أحد المستشفيات الفرنسية، تصدرت أخبار المجتمع في وسائل الإعلام ، أما عندي فقد انزلقت الصورة إلى القاع، حيث كانت تركض فوق أوتار العود وصوت الشيخ أمام، وتقلع نحو الكلمة الساخرة التي كتبها الشاعر أحمد فؤاد نجم .
قبل أن ترتدي الحكاية ثياب الذكرى، سألت نفسي: لماذا لا يوجد عندنا في الوطن العربي رئيساً أو ملكاً سابقاً، ها هو الرئيس الفرنس “فاليري جيسكار ديستان” الذي استلم الحكم 1974- 1981، ما زال يعيش ويتنفس وبالطبع يتذكر ماضيه السياسي، لكن عندما يتذكر الرؤساء والملوك العرب الذين كانوا على زمانه أو عاصروه سيجدهم قد أصبحوا تحت التراب إما قتلاً أو إعداماً أو كرهاً من قبل شعوبهم، وكانت نهايتهم السجن ولمعان نياشين الفساد وأوسمة الرشوات تبرق فوق كرنفالات وسائل الاعلام والمحاكم وكتب الباحثين .
صدقاً لماذا لا يوجد عندنا في الوطن العربي – باستثناء لبنان – ما يسمى ” الرئيس السابق ” أو الملك السابق؟ أعرف أن الجواب سيكون مثل البطارية الخاوية، التي تحلم بالامتلاء، أو مثل النكتة التي يعجز سامعها الأصم عن الابتسام .
عندما زار الرئيس الفرنسي “فاليري جيسكار دستان” وزوجته مدينة القاهرة في 16/ 12/ 1975 استقبلته مصر بالأحضان، خرجت الجماهير إلى الشوارع والطرقات مرحبة به- يقال أن المخابرات أجبرت الشعب على الخروج – لأن الرئيس السادات قد أوعد المصريين أن هذه الزيارة ستغير مصر اقتصادياً، وسيعم الخير على المصريين وسيختفي الفقر والفقراء، وتنشط الحركة السياحية والتبادل الطلابي.. وكبرت أحلام المصريين الذين أرادوا الخروج من بين القضبان الاقتصادية التي تحولت إلى مشانق تضغط على الأعناق.
ومع الاستقبال الحافل والملوكي للرئيس الفرنسي، والصور التي تدفقت من القاهرة لجميع أنحاء العالم ، معلنة عصر أخوة “السادات ودستان ” هناك من انتظر حتى يتلاشى ضباب دفء العلاقات السياسية، انتظر وهو يحدق في العتمة لعل فجر الغد يأتي مع عبق العطر الفرنسي.
وبسخريته المعهودة كتب الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم قصيدته الشهيرة “فاليري جيسكار ديستان والست بتاعه كمان” وقام بتلحينها الشيخ إمام ” ولد عام 1918 – توفي 1995 ” .
لقد حظي الرئيس المصري السادات بالنصيب الأكبر من الأغاني الساخرة التي كتبها نجم وغناها أمام، التي انتقدت طريقة حكمه المتوجهة إلى الغرب وإلى الخطط الاقتصادية التي خلخلت الطبقات الشعبية المصرية.
لا ننسى أغنية ” الفول واللحمة ” التي كانت تسخر من تراجع الأحوال الاقتصادية في مصر بعهد السادات مما استدعى الحكم على ” نجم / إمام ” بالحبس لمدة عام 1977 ، وأيضاً أغنية “شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووترجيت” الذي انتقد فيها زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون لمصر .
وظاهرة “إمام / نجم” لفتت انتباه العالم العربي . وقدم الثنائي ” نجم وإمام ” أجمل الأغاني الوطنية منها ” يا فلسطينية والبندقاني رماكو ” و ” مصر يا اماه يا بهية “، عدا عن الأغاني الأخرى التي ما زالت تنطلق في الحفلات والمناسبات الوطنية .
في حي “حوش آدم” في منطقة الغورية في مدينة القاهرة القديمة التقيت بالشيخ إمام عيسى أول مرة عام 1983 – بعد ذلك التقيت به عدة مرات – وكانت أغنية “فاليري جيسكار دستان” ما زالت مشتعلة بالسخرية رغم رحيل السادات اغتيالاً، ورحيل الرئيس الفرنسي عن كرسي الحكم انتخاباً، لكن بقيت الأغنية تدل على الخداع السياسي وتزوير الواقع المكيف بغاز استهبال الشعب. بينما كانت رقعة الفقر تكبر أكثر وأكثر والمشاكل الاقتصادية تتسع دوائرها .
ما أن سألت الشيخ إمام وضحكتي تتربع على ركبة الاستفزاز .. ما أخبار “فاليري جيسكار دستان والست بتاعه كمان” حتى حمل عوده الذي تشعر بأن العود لا يحمل أتاراً بل يحمل قضايا وطنية ومعاناة وأصوات الغلابا… حتى أخذ يغني بصوته العذب كأن حنجرته قد تمددت على سكين التحدي وها هي تقطع من لحم الواقع المزيف :
( فاليري جيسكار دستان …… والست بتاعه كمان
حيجيب الديب من ديله ….. ويشبع كل جعان
يا سلاملم يا جدعان ….. ع الناس الجنتلمان
حتبقى العيشة جنان …. والتلفزيون حيلون
والجمعيات تتكون …. والعربيات حتمون
بدل البنزين برفان … ) وتستمر الأغنية …
حتى اليوم لا يعرف المواطن العربي ماذا يدور خلف الأبواب الرئاسية المغلقة ، الزيارات الرئاسية والهتافات الوطنية والاستقبالات والسجاجيد حمراء ، ثم لا شيء.. يموت الرئيس وتموت الأسرار.
وبعد موت الشيخ إمام وموت نجم لم يعد للأغنية الانتقادية التي تعري تلك اللحظات الموسمية وجوداً، لم تعد الأغاني السياسية القادمة من عمق الجوع والوجع والفقر والظلم والرفض تتنهد فوق الشفاه .
الرئيس الفرنسي العجوز “فاليري جيسكار دستان” الذي استقبله الشعب المصري حاملاً أحلام رايات التغيير، يرقد الآن في المستشفى دون صحة وذاكرة … يرحل الرؤساء وتبقى الشعوب .. طوبى للشعوب الثائرة .