قراءة “عن بعض ما جاء في التأويل” للشاعر الفلسطيني خالد شاهين

أمين دراوشة | فلسطين

تمهيد

يعتبر الشاعر خالد شاهين من الشعراء القلائل الذين يمتلكون فطرة سليمة ونقية، تنسكب في كتاباته كماء فرات. وقراءة شعره وشذراته العميقة تشعرك بالجمال البراق الذي يثير فيك الشعور باللذة لإيجابية، جمال “يتولد منه الحب الذي يرافق استرخاء عضلاتنا وأعصابنا”. (دني هويمان. علم الجمال. ترجمة ظافر الحسن. الجزائر: منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. ط2. 1975. ص52) كما يقول المفكر بورك.

فالشاعر الحق هو الذي “يعرف كيف يعيش في الدنيا وكيف لا يعيش. أي أنه يجد الحياة الخيرة في المكان التي توجد فيه فعلا- أي في الذهن الذي يتخيلها ويؤمن بها، وذهن –الشاعر- لا يرى عوالم فحسب بل يتخيلها أيضا”. (مارك فان دورن. أهمية الشعر الممكنة. في:الأديب وصناعته. إشراف روي كاودن. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بيروت: منشورات مكتبة منيمنة. ط1. 1962. ص 225-242)

وهذا ما برع فيه شاهين في نصوصه التي بين أيدينا.

“عن بعض ما جاء في التأويل”

لا يستطيع الكاتب الفلسطيني الهروب من واقعه المأساوي، فهو يعيش تحت احتلال همجي يسعى بكل قوة لتحطيم الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، وكسر إرادته. وكان من نتائج الاحتلال البغيض الذي يحوز على دعم العالم “الحر” أن تحولت حياة الفلسطيني إلى جحيم دون مراعاة لمبادئ الإنسانية التي يتشدق بها الغرب، إذ يبدو عن الشعب الفلسطيني ليس من طينة البشرية.

يقول شاهين:عن الشيطان

“يأتيك من الجهات الموسومة بالحقوق الملكية، يوزع الخطابات الحماسية على وكالات الأنباء والشعراء ومن يدعون مع الله إلها آخر، ويختم أحبكم يا معشرِ البشر المخلصين.”

فرأس العالم الحر ليس أكثر من شيطان يمارس الزيف والدجل، ينشر ثقافة الموت والدمار ويدعي حب الإنسانية، وتجد الكثير من الناس يقعون في وحل الشيطان، الذي يقودهم إلى الهاوية راضين ومبتسمين. فهو يعد بكل شيء جميل، ويعد المستضعفين بالأمل الكاذب، وهذا ما يؤكده الشاعر في نص

عن قاطع طريق

 “يعّدك بأنكَ ستعبرَ الوادي الضيق الذي يربط الحُلمَ بالعالم، سوف تتحرر من. وتسمع أغنية مرَ القطار سريعاً كنتُ منتظراً”.

ليكتشف الإنسان الحالم إن كل وعود العالم الحر (الشيطان) ليس أكثر من سراب تقوده إلى الجحيم.

ولا يتواني شاهين عن توجيه سهامه اللاذعة إلى الأوضاع المزرية للمجتمع الفلسطيني، حيث الانشغال بسفائف الأمور التي تحرف البوصلة عن مقارعة الاحتلال. يقول في نص

عن حكومة ما

“يهرول الوقت من كيسٍ على كتفِ متسولٍ، يستمرُ في سردِ الوجع، يركلُ المارة ثوانيهم في الاتجاه المعاكس للرغبة، تحمل وجوه الناس تعبيراً واحداً، فيما العسكر منهمكون بتضميد بنادقهم المُكسرة، والمتدينون الجدد حطموا النُصب المجهول، كي لا يحوم المراهقون يوماً حول “هُبل” أو يتوارون في ظله من الشمس، الإيمان وحده لا يكفي لكسرِ الصنم”.

فرغم الاحتلال البغيض، والأوضاع المتداعية للشعب الذي يعيش الحصار الخانق وشيوع الفقر والمرض والجهل، وغرق الناس بالوجع والألم لدرجة هروبهم من كل شيء يحقق لهم ولو بعض فرح، نرى البعض شغله الشاغل تحطيم النصب التذكارية بحجة إنها أصنام تعبد، ويتسأل شاهين هنا، ألا يكفي الإيمان الراسخ في قلوب الناس لاعتبار هذه النصب تذكارا للأشخاص الذين ضحوا بحياتهم، فمع الإيمان العميق لا يمكن لتمثال أن يتحول إلى إله.

بل إن الجامعات التي من المفروض أن تنشر العلم والأفكار التي تعبر عن الحرية واحترام الآخر، أصبحت أماكن لنشر الرذيلة وثقافة الخنوع والخضوع.

عن الجامعات

“صارت معاهد للرقص، وطلبة قسم التشريح موسومون بالبلادةِ حين نتحول على أيديهم لأرانب”.

والكاتب الفلسطيني الذي يعيش الهم والغم ما زال على ثقة بأن الأمة العربية لا بد ستنهض وتمتلك ناصية العلم والقوة لتحقيق الأمل المنشود، ورغم الإحباطات الكثيرة فأن الحلم بغد أفضل لا يمكن أن يزول. فبرغم الوجع الدمشقي والدماء المسالة، سيأتي الوقت لتحقيق المراد.

عن قراءةٍ في كفٍ

“في الصّباحاتِ الهْشةِ تنشطُ الذّاكرة، السرُ في فنجانِ قهوةٍ، حروفٌ تهذي من فمِ مْخبولٍ تعود على رائحةِ الماريجوانا، يتبختر الجندُ بالعطرِ والشمعدان على خط الحياة، يقدموا دفعةً واحدةً تحية العلم، وينقلون شعور طفلٍ جائع في دمشق وأسئلة ترويها لنا المجزرة عبر تلفازٍ قديم”.
ويستمر شاهين في توجيه نقده لكل شيء أعوج، ولا يستثني الشعراء الذين يبيعون مبادئهم من أجل جائزة هنا أو هناك، يقول:

عن شاعرٍ بعينه

“كأنَ الشاعر في الظهيرة امرأة تجلس يوم الجمعة على باب المسجد، وفي مقهى الليل يضع المساء قدماً على ساقْ ويطرب بنشيدِ الحشاشين، منتصراً عاد بوجبة فاخرة، أنا في النص رجلُ غض أعرف، فالشاعر باع آليته وصار يشبه “رامبو”.

يشبه شاهين الشاعر الانتهازي بالمتسولة أمام المسجد في يوم الجمعة، أو من مريدين المقاهي برفقة الحشاشين، وأنه قد يحصل على مراده ولكن مقابل أن يخسر نفسه ويدلق ماء وجهه.

الحلم والحب ما يتبقى بالنهاية

لآلام الحلم الجميل نصيب من كتابات شاهين، فنراه في نص

عن دفتر الرسم

فراغٌ شاسعٌ، ترسمُ فيه الفتياتُ الخمس خرائط، بأصابعٍ لها ممحاة، قالت إحداهنَ، الطبيبة منا تسكن في الطابق الأول، الطابق الثاني أنا المديرة، الطابق الثالث القاضية، الرابع للمصورة، وفي الخامس الشاعرةُ المهندسة، وبدأ البناؤون بالسور، وهنَّ أكملنَ طريقهن حجلاً إلى المدرسة”.

فقسوة الحياة في فلسطين، تجعل الفلسطيني يطارد أحلامه بعنفوان، فتلك الفتيات الطالبات يحلمن بمستقبل زاهي وزاهر غير مكترثات بمصاعب ومصائب الحياة.  أما الحب وهو مادة الشعراء الرئيسية فله نصيب كبير في نصوص شاهين، يقول في نص

عن حبيبةٍ

“قلبُها؛ يمامةٌ. فمُها؛ عَلامةُ إدغامْ. حُسنْها؛ أَرضٌ صَوفيةٌ. أرغولٌ تداعىَ علىَ كفِّ المساءْ، لمن شاء يسمع، عن امرأة؛ جاءت في سياق النص كي يستقيم. تَتَحسسني بالبابونج والدعاء والبخور. وصفتها الجَدة؛ جسدٌ ممشوقٌ، وقالت؛ هذا تأويل ما لم تَستَطع عليه صوما”.

لا شك إن هذه المقطوعة تنشر رذاذها المنعش في وجه القارئ، فتجعله يفتح عينيه، ويعيد النظر فيما يقرأ كما يقول جبرا إبراهيم جبرا. فالإبداع هو الذي يثير الفكر بصور لم تكن متوقعه وأي شيء غير ذلك فهو ليس بإبداع، فحتى نكون في حضرة الإبداع لا بد أن –يقول جبرا- يعطيني “الشيء الذي يفتح عيني، يدهشني، يذهلني”. (حوار مع جبرا إبراهيم جبرا. في: جهاد فاضل. قضايا الشعر الحديث. بيروت: دار الشروق للنشر والتوزيع. دون تاريخ. ص 179-203)

فالحبية لها قلب حمامة وادعة، وفمها الصغير يشبه حركة الإدغام، وجمالها لا حدود له فهو كأرض صوفية، كالموسيقى المليئة برائحة الأرض، ولا يمكن للشعر أن يستقيم ويحقق مبتغاه إذا لم تكن تاجه. وجاء التناص مع القرآن الكريم ليزيد النص ألقا.

 
ويضيف أيضا:

عن لوعةٍ

إنَ الطاهرات، الراهبات، الجميلات، العفيفات، النّاعسات الطّرف، الأميرات الجاهزات للحب، من عيونّهنَ تفوح اللْغة كطعامٍ شهي وتنضج أحوال القصيدة.

فالقصيدة لا يمكن لها أن تنضج وتصبح شهية ولذيذة دون حب الأميرات العفيفات الجاهزات للحب. فهن وحدهن من يجعل للقصيدة لون ورائحة.   وفي الختام يتذكر الكاتب ألم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فيقول:

عن الألم

“حين نَزَّ دمُ النبي بالطائف”. وكأنه يصبر نفسه على احتمال الألم الذي لا يطاق، بالاقتداء بخاتم الأنبياء الذي تعرض للأذى والألم ولكنه لم يستكن أو يضعف وبقى وفيا لرسالته حتى أداها على أكمل وجه. وننهي بنص

عن كرمةٍ كنت أعشقها

“عند الموتُ عرفتُ أنها لم تكن لي، وأنيَّ كنت عليها أجير”. ويعبر النص بشكل جلي على أن الإنسان عليه القيام بما ينبغي له القيام به في الحياة، ليكون أدى رسالته فيها، فالإنسان فان، ولا يتبقى منه غير أعماله الخيرة أو الشريرة التي سيتذكرها الناس، وتبقى فلسطين على مر الأجيال العنوان والهوية.

ويستحضرني هنا قول الروائي الانجليزي س.إ. مونتاغيو في تعريفه للمحظوظين، والذي ينطبق أيضا على الأدباء: “يبدو المحظوظون وكأنهم ما جاءوا إلى العالم إلا لتوّهم..فما يزال فيهم شيء من آدم في يومه الأول: إنهم يستطلعون بعيون براقة، تنظيم الحديقة، ويرنون عجبا إلى القمر والنجوم وكأنها من غرائب الكائنات”.( سترثرز بيرت. زيف الواقعية. الأديب وصناعته. مرجع سابق. ص 147-172).

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً على خالد محمد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى