العلامة عند العرب
العلامة عند العرب
د. أحمد شرجي | العراق
أشار بيير جيرو P.Guiraud في كتابه (علم الدلالة)، أن علم الدلالة هوالعلم الذي يهتم بدراسة الكلمات، وإن أصل الكلمة Sémantique المشتقة اصلاً من الكلمة اليونانية Semaino بمعنى (دل – عنى)، ومصدرها Sema بمعنى (دال)، وبموضع آخر فهي تعنى علامة، ومعنى ذلك إن التعبير الدلالي ما هو إلا تغير في المعنى، باعتبار أن الكلمة تكتسب قيمة دلالية محددة أو جديدة بناء على عوامل لغوية ونفسية ومنطقية، وهناك ثلاثة أنظمة سيميوطيقية لتحقيق القضايا الدلالية، وهي:
• قضية تتعلق بعلم النفس: تبحث في الرموز اللغوية بين مستخدميها. ماذا وكيف نتواصل؟ وما هي الوظيفة الآلية والنفسية لهذه العملية
• قضية تتعلق بالمنطق: وتمثل صورة من صور السلوك الإنساني بعيداً عن دلالات تلك الرموز ولهذا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالانثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية.
• قضية تتعلق باللسانيات: تهتم بتمديد العلاقة القائمة بين مجمل مكونات الجملة ، بمعنى آخر ، إنها تهتم بالبناء اللفظي دون التعمق في دراسة وتحليل ما وراء الالفاظ من مدلولات. ( بيير جيرو، علم الدلالة).
ونلحظ سبب ذلك يعود إلى أن التصوير في كل لغة مقيد في بلاغة الأصوات وطرائق ارتباطها مع بعضها البعض وعملية نطقها أيضاً، لأن “اللغات الطبيعية لاتستعمل كل الأصوات اللفظية ولا تجيز كل التقلبات الممكنة، بل تنفرد كل لغة بعدد معين من تلك الأصوات وبقواعد محددة لتركيب الكلمات منها، وهذا التركيب، بالإضافة إلى إنه يحدد إمكانية المزج بين الحروف، يجري بتسلسل زماني واحد يأبى التعدد الصوتي الواقع أحياناً في المدلولات الخارجية” (عادل فاخوري،ص25) .
بناء على ما تقدم، انحصر البحث الدلالي عند الفلاسفة العرب أمثال (ابن سينا، الغزالي، والفارابي) على الدلالة اللفظية ، ولم يحد تعريفهم لها عن تعريف أرسطو، فالدلالة عندهم، هي: اللفظة والأثر النفسي- الصورة الذهنية- والأمر الخارجي. ووفقاً لابن سينا فأن نوعية العلامة تكون: خارجية بين الخط واللفظة من جهة، و بين اللفظة والصورة الذهنية من جهة أخرى، ولكنها تكون طبيعية بين الصورة الذهنية والأمر الخارجي.
وليس هناك من صعوبة لوضع اللفظة والصورة الذهنية مقابل الدال والمدلول، والخط بمثابة دال غير مدلول عليه، والأمر الخارجي مدلول عليه غير دال. وبهذا تكون الدلالة الخارجية، الدلالة الوضعية كما يسموها ، ويقابلها عند بورس الدلالة الرمزية Symbolic والطبيعية تتوافق مع الإيقونية البورسية. (عادل فاخوري،ص7)
لم يستثنوا الفلاسفة العرب الأمر الخارجي للعلامة – أي المرجع- وإن كان الأمر يتعلق بالعلامة اللفظية، ولكن تعلق اللفظ بالمرجع لا يكون إلا من خلال الصورة الذهنية، وهذا يتطلب علامة إضافية ، كما عرفها ابن سينا (فهم أمر من أمر)، وهذا يفسر لنا العلاقة بين الدال والمدلول، فهو أمر: يحيل فهم السامع الى المتحدث، ويتمثل ذلك بـ (الدال)، ويستدعي فهم الأمر الثاني/ المدلول، وبذلك تكون العلامة عند ابن سينا من خلال العلاقة بين صورتين ذهنيتين.
وبناء عليه، فإن العلامة اللسانية لا تتطلب بالضرورة أربعة أركان أو ثلاثة- إذا استثنينا الكتابة- ، بل تكتمل العلامة بركنين فقط هما الدال والمدلول، وهذا نجده عند دوسوسير أيضاً، وقبله عن القديس أوغسطين، وقد استفاد الاثنان من طروحات الرواقيين بهذا الشأن.
لقد اتفق الفلاسفة العرب على تقسيم العلامة الى ثلاثة أنواع وهي (وضعية ،طبيعية، وعقلية)، وهذه الأنواع نجدها عند الاميركي بورس لكن بمسميات أخرى، وهي (مؤشر Inex وإيقونة Icon و رمز symbol) ، وقد شاعت أنواع بورس لاحقاً في السيميولوجيا الحديثة، وتأسس مشروع بورس على التركيب الثلاثي للعلامة، ولتوضيح التقارب البورسي و أنواع العلامة عند العرب، يكون المثلث العلامي: الماثول/ الدال ، والموضوع/ الأمر الخارجي، والتعبير/ الصورة الذهنية، وبذلك تكتمل أركان المثلث العلامي عند بورس وتكون كالآتي (ماثول ، موضوع ، تعبير)، ويشكل كل ركن من أركان المثلث ثلاثية جديدة. و أنواع العلامة عند الفلاسفة العرب هي:
1. العلامة الوضعية : هي العلامة التي يتم الاتفاق عليها، أو المتعارف عليها، بحيث إذا فهم الأول ، يقود ذلك الى فهم الثاني، وعرّفها الجرجاني ، بأنها (جعل شيء بإزاء شيء آخر بحيث إذا فهم الأول فهم الثاني)(الجرجاني، في فاخوري،ص15)، ومثال على ذلك الإشارات في الكتابة (إشارات النصب والضم) فهي إشارات اتفاقية، تفهم قصديتها بواسطة الاتفاق على كنهها.
ورغم اهتمام العرب بالجانب اللفظي للعلامة الوضعية، لكنهم توصلوا الى تمايز الأصناف (الموضوع، المعنى، الموضوع له) في داخلها لأجل فهم تركيب العلامة.
ويصنف عادل فاخوري ذلك التميز الى ثلاثة أصناف (وضع لفظ كلي، واحد جزئي، وجزئيات غير متاحة) وكل واحدة تتفرع من الثلاثة إلى ملفوظ كلي واخر جزئي ، الهدف من ذلك للإشارة الى التمايز بين لفظ كلي ولفظ جزئي ، وهذا يمثل جانب بصفة عامة، بمعنى يمثل الموضوع الجزئي الظهور الفردي للعلامة ويقابل ذلك العلامة العينية Sin-Sign عند الاميركي بورس، بمعنى اخر، تكون كلمة (زيد) موضوعاً جزئياً ، لكن الموضوع الكلي هو الصورة المجردة التي تنطبق على جزئياتها بالتساوي. ( فاخوري،ص15)
2. العلامة العقلية: هي دلالة الأثر على المؤثر، ويعتبر هذا التبسيط قوة العلامة العقلية، فهي ترتبط بالعقل ومثال على ذلك دلالة الدخان على النار. ويتحدد وجود العلاقة العقلية بالعلة، فلا بد من وجود سبب لمعرفة المسبب، فالأثر يقودنا الى المؤثر، وعرفها التهاوني بأنها ” دلالة يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة ذاتية ينتقل لأجلها منه إليه. والمطلوب بالعلاقة الذاتية استلزام تحقق الدال في نفس الامر تحقق المدلول فيها مطلقاً، سوى كان استلزام المدلول للعلة كما استلزام الدخان للنار ، او العكس كاستلزام النار للحرارة ، أو استلزام أحد المعلولين للآخر كاستلزام الدخان للحرارة “، وبناء عليه فان العلامة العقلية تربتط بالعقل والذي يجد العلاقة بين الدال والمدلول، علاقة ذاتية تنتقل لأجلها منه إليه ، ومرجعية ذلك السبب أو العلة، وبمعنى آخر تكون العلة الخارجية مصدر وجود العلامة العقلية، لأنه يشير الى السبب.
3. العلامة الطبيعية: شاب الكثير من الغموض هذه العلامة، بسبب ما يحمله المصطلح من مفاهيم غيبية من جانب، ومن جانب آخر لتفرع المصطلح(طبيعية – طبع – طباع) ويجدها التهانوي بانها ” دلالة يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة طبيعية ينتقل لأجلها منه إليه.
والمراد في العلاقة الطبيعية إحداث طبيعية من الطبائع، سواء كانت طبيعة اللافظ أو طبيعة المعنى أو طبيعة غيرها، عُروض الدال عند عروض المدلول، كدلالة ( أ ح أح) على السعال، وأصوات البهائم عند دعاء بعضها بعضاً، وصوت العصفور عند القبض عليه، فإن الطبيعة تنبعث بإحداث تلك الدوال عند عروض تلك المعاني، فالرابطة بين الدال والمدلول هنا هو الطبع “.
وأيضاً تشير الحمرة على الخجل بوصفها دلالة العلاقة الطبيعية بين الدال والمدلول بواسطة إشارة من العقل، وكذلك دلالة الصفرة على الوجل ، وآهات التوجع. وبشيء أكثر اتساعاً ، يمكننا القول: العلامة الطبيعية ، هي كل ما يدركه الحس الباطني باعتباره مؤثراً ، على الحس الخارجي باعتباره الأثر، ولكن هذا الأمر لايخلو من استثناءات تفرضها طبيعة الشخص نفسه، مثل التعرق عند الخجل، وليس احمرار الوجه والبكاء عند التوجع وغيرها الكثير من العلامات الطبيعية، والتي ترتبط بالمدارك الحسية الباطنية وتترك أثرها على المدارك الحسية الخارجية، بوصفها علامة تشير الى علاقة الأثر بالمؤثر.
لا يمكن التسليم بريادة الفلاسفة العرب بتقسيم أنواع العلامة، فهناك جذور أرسطية ورواقية (الرواقيين) لهذا التقسيم، بمعنى الاستفادة من تقسيم أرسطو والرواقيين للعلامة، وأشار عادل فاخوري لذلك ، بأن الرواقيين صنفوا العلامة الى صنفين من الأمور :
• الأمور الغامضة لفترة : و التي لا يمكن الاستدلال إليها إلا بعلامات تذكرة، وعلامة التذكر ، هي التي يلاحظ فيه المدلول حتى وإن لم يقع بوضوح أمام حواسنا، لكن المدلول كأثر موجود مثل بقايا الدخان على النار.
• و الأمور غير المتيقنة بطبيعتها ، وهي علامات كشف أو تدليل ، والتي لم تلاحظ مع الشيء في الوقت ذاته ، لكنها حسب طبيعتها وتركيبها تشير الى الأمر الذي هي علامة له، مثلما أن حركات الجسم هي علامة على علم النفس.(ينظر عادل فاخوري)
أما بالنسبة لأرسطو فانه قسّم العلامة الى قسمين ( طبيعية ،و وضعية)، ولكن الطبيعية تضم العقل، ويبدو أن التقسيم الأرسطي فرضته طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول باعتبار أن العلاقة الطبيعية هي كونها علاقة أثر بمؤثر.