بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (١٩)
عليّ جبّارعطيّة | رئيس تحرير جريدة (أوروك) العراقية
شعرة العمالة والوطنية !
مازالت آثار الدمار، والخراب، والحرائق، قرب مرقد الامام علي في النجف الأشرف لم تغادر المكان المنكوب برغم مرورثمانيةٍ وتسعين يوماً على التفجير الذي استهدف السيد محمد باقر الحكيم في انتهاكٍ فظيعٍ لحرمة الزمان في الأول من شهر رجب الحرام، وفي ظهيرة الجمعة، وجوار أمير المؤمنين.
هل كُتب على ظهور أصحاب المبادئ أن تتلقى طعنات (أبناء المُلْجَمين) (نسبةً إلى عبد الرحمن بن مُلْجَم المرادي قاتل عليّ بن أبي طالب فجر يوم ١٩ رمضان سنة ٤٠ هجرية ) الذين يتكاثرون كما يتكاثر الذباب ؟
ما زالت المدينة تلملم أحزانها، وتداوي جراحها ، وترمم ما تشظى من هيبتها .
هذا ما وجدته حين سافرت مع الصديق الكاتب، والمترجم عبد الهادي فنجان الساعدي بسيارة جاره أبي زيد (اللادا) يوم الجمعة الموافق ٢٠٠٣/١٢/٥ م إلى مدينة النجف الأشرف قاطعين نحو ١٨٠ كيلومتراً بثمانين لتراً من البانزين العادي، وبكلفة عشرين ألف دينار عراقي (سعر اللتر ٥٠٠ دينار عراقي) حسب سعر السوق السوداء.
كانت هناك أزمة في البانزين، وحين ترك السائق سيارته في أحد كراجات النجف، اكتشف سرقة عشرة لترات، سأل الحارس عنها، فأنكر معرفته بالسرقة. استمرت الرحلة ذهاباً وإيابا اثنتي عشرة ساعة. بدأت في الساعة الثامنة صباحاً حيث الشمس المشرقة، وانتهت بهطول أمطارٍ غزيرةٍ !
أمّا مدة رحلة السيارة فكانت ثلاث ساعاتٍ في الذهاب ،وثلاث ساعات ونصف في الاياب؛ بسبب مزالق الطريق… لم نصل إلى النجف إلى بشق الأنفس بسبب الإجراءات الأمنية المشددة التي سببت طوابير من السيارات التي تتقدم ببطءٍ شديدٍ.
انتصف النهار، ونحنُ خارج الصحن الحيدري لاغلاق أبوابه بسبب بدء خطبتي صلاة الجمعة للسيد صدر الدين القبنجي بصوته الثوري، وأفكاره المنظَّمة التي صقلتها دراسته الحوزوية المعمقة… وصلني صوته الجهوري خارج الصحن، فذكر أنَّ أهل البيت تعرضوا إلى عدة تصفياتٍ: التصفية السياسية؛ فاتهموا بأنهم غير مؤهلين للحكم كما حصل مع الإمام عليٍّ فقالوا عنه : إنَّه حديث السن !.. أما التصفية الثانية فهي التصفية الجسدية بالقتل. أما التصفية الثالثة فهي التصفية الشرعية، أي نزع الشرعية عن مذهب الأمامية، وعدهم غير شرعيين كما فعل الوهابية. وربط القبنجي بين تهديم قبور أئمة البقيع، وتهديم القبور زمن صدام.
ونوه إلى قرار إجتثاث البعث وقال: لقد مضى عليه شهران وبقي شهرٌ ثالثٌ، ونحنُ أرحم بالبعثيين، فلم نطلب من عضو فرقة فما فوق سوى ترك مناصبهم، ومسؤولياتهم، والذهاب إلى بيوتهم على أن يأتيهم راتبهم التقاعدي، ولو طبقنا فيهم حكم الله فإنَّ حكم الله هو (قاتلوا الذين يقاتلونكم..) و (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) و(أخرجوهم من حيث أخرجوكم) .
وتابع يقول : ألم يبدأوا هم القتال، وأخرجوا الناس، وجعلوهم يعيشون في الخارج… وطالب الموظفين، والأساتذة، والطلاب بمتابعة هذا الموضوع… كانت هناك هتافات من الحاضرين منها هتاف يقول :
لبيك يا صدر الدين
كلـنا فــداءٌ للـــدين
لم يقبل القبنجي به وقال : أنا خادمٌ للدين، وأُفضِّل أن تكون التلبية لله.
بعد الخطبة كنّا في ضيافة الباحث كامل سلمان الجبوري (أبا علاء) مدير متحف ثورة العشرين سابقاً، وحين قابلته كان يعد العدة لمناقشة أطروحته في الماجستير في القانون والشريعة من جامعة العلوم الإسلامية في بيروت، وللجبوري عدة مؤلفات عن ثورة العشرين ومخطوطات ( أكمل فيما بعد دراسته العليا في كلية العلوم الإسلامية في بيروت فحصل على الدبلوم العالي ثمَّ الماجستير ثمَّ الدكتوراه) . وقد قابل شخصياتٍ متنوعةً كانت له علاقاتٌ خاصةٌ بهم مثل: السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد محمد صادق الصدر، والسيد روح الله الخميني، والسيد علي السيستاني والشيخ محمد مهدي الآصفي ، والشاعر شفيق الكمالي، وصدام حسين !
قال لي وهو يضيفنا في بيته :إنَّ علاقته بالمجتهدين، ومراجع الدين وثيقة؛ لأنَّه كان فاعلاً في العمل الإسلامي منذ منتصف الستينيات (هو من مواليد النجف سنة ١٩٤٩ م) وقد عمل في صحيفة (البلاغ) النجفية وكتب مقدمة كتاب الشيخ محمد مهدي الآصفي (١٩٣٩م ـ ٢٠١٥ م) (الإمامة في التشريع الإسلامي) ، وأجرى حواراً نادراً مع السيد روح الله الخميني.
يروي عن السيد محمد باقر الصدر أنَّه كان يرفض وصفه بآية الله العظمى… ويقول عن السيد علي السيستاني إنَّه ينظر بعين البصيرة، وهو رجلٌ يكلم كل شخصٍ حسب مستواه، وتشعر معه حين يكلمك أنَّه يعرف كل تفصيلات الشارع العراقي، وهو قليل الكلام فإذا تكلم فكلماته القليلة يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ.
يضيف: إنَّ السيد علي السيستاني لا يحتاج إلى الإعلام، وقد جلبتُ معي من لبنان مئة صورة له، وسلمتها إلى ابنه محمد رضا فلما طلب مني أحد الأخوة صورةً أرسلته إلى محمد رضا فرفض إعطاءه أية صورة لأنَّ المرجع زاهد في الإعلام، في حين أنَّ بعض رجال الدين يصر على الذهاب إلى المطبعة، ويشرف بنفسه على وضع صفته الدينية قبل اسمه !
يكمل: بل إنَّ بعضهم يفتخرأنَّه صلى الظهر، وكان يصلي بامامته ثلاثين مصلياً فشكر الله، لكنَّه ما أن أنهى صلاة العصر، والتفت، حتى وجد عدد المصلين قد وصل إلى الضعف ! يقول الجبوري : إنَّه التقى الكاتب (عادل رؤوف) في سوريا، ووصفه بأنَّه كاتبٌ جيدٌ إلا أنَّه ينقصه التوثيق، وقد أخبره الجبوري بهذه الملاحظة، موجهاً إليه هذه النصيحة :أنَّه طالما يكتب للتاريخ فإنَّ القراء سيلفظون كتبه إن لم يكن ذا ثقةٍ في ما يكتب.
يروي عن الشاعر شفيق الكمالي هذا الموقف، يقول : كنتُ في زيارة لمجلة (آفاق عربية) وكان أحد الزملاء النجفيين من الذين توسطتُ له لتعيينه بوظيفةٍ محترمةٍ قد قابل معروفي بأن وشى بي لدى بعض المتنفذين بدعوى أنّي أخفي وثائق تثبت صحة نسب السيد الرئيس إلى السادة ! فسألني الباحث عبد الجبار العمر : لماذا لا تنشر الوثائق التي لديك في متحف ثورة العشرين التي تثبت نسب السيد الرئيس إلى الإمام علي (يقصد الشجرة المزيفة التي روج لها في الثمانينيات بانتساب صدام إلى الدوحة الهاشمية !) يقول الجبوري :سألني الكمالي عن ذلك فأجبته بشكلٍ قاطعٍ : لن أنشرها !
يكمل: من دون أن يسألني الكمالي عن سبب إصراري على عدم نشر تلك الوثائق الملفقة فقد فهم السبب ، وعلَّق قائلاً: أُستاذ كامل الجبوري رجلٌ شريفٌ، ولا يريد أن يلوّث تاريخه!
سألتُه: هل قابلت صدام حسين؟
قال : نعم ، قابلته لمدة خمس وعشرين دقيقة، وشعرتُ كأنَّ شعاعاً يخرج من عينيه، وينفذ إلى داخلي، ويعرف ما يدور في ذهني من أفكار، وإنْ كانت هذه القدرة على الرؤية الباطنية سُخرت لأهدافٍ شيطانية ! ( كان صدام يفتخر أنَّه يعرف الخائن من عينيه !)
يضيف : سألني عن طلباتي ، فلم أطلب منه شيئاً !
يستمر الجبوري بضرب الأمثلة على عدم تقدير الأمور التقدير الصحيح؛ بسبب عدم وجود رؤيةٍ سليمةٍ للواقع .. يقول : سمعتُ أحد السادة المعممين يُكثر من شتم صدام في كل مكانٍ يحل فيه، فنصحته بالكف عن هذه العادة التي تجلب الضرر، فلم يأخذ بنصيحتي، واستمر بالشتم مما لفت انتباه رجال الأمن إليه فراقبوه، ولاحقوه الأمر الذي اضطره إلى الفرار إلى إيران، ولم يجد هناك المكانة التي تليق به، فتركها، وغادر إلى سوريا.
يكمل : كنتُ في زيارةٍإلى سوريا، فالتقيته وسألته : أيهما أحسن لك في مناهضة صدام :عندما تكون في النجف الأشرف، وتُقابَل باحترامٍ، وتُقبَّل يدك، ويصلى خلفك في المسجد، أو تكون هنا حيث تعيش وحيداً ؟
يضيف : عاد هذا (السيد) إلى النجف قبل مدةٍ فزرته للسلام عليه، وسألته عن أحواله، فوجدته يكثر من مطالباته برحيل القوات الأمريكية المحتلة، مدعياً أنَّ صدام ضعف في الآونة الأخيرة !
رددتُ عليه : واللهِ، لو اجتمعت الجن والانس على أن يسقطوا صدام ما استطاعوا أن يحركوا شعرةً في شاربه إلا بسلطانٍ وقد حصل هذا بالقوات الأمريكية !
شكرنا الجبوري على حسن الضيافة، وحين غادرنا النجف راجعين ظلت حكايات، وكلماته تجول في ذهني خاصةً حديثه عن دور قوات الاحتلال في التحرر من قبضة الدكتاتورية والحكم المستبد، وكيفية التعاطي بواقعيةٍ مع هذه المسألة المعقدة.
فوجئنا بطريق العودة بعد خروجنا من الحلة بهطول أمطارٍ غزيرةٍ لم تغسل غبار الأسى الذي غطانا بعد مشاهدة آثار التدمير في أقدس مكانٍ قرب صاحب القبة البيضاء في النجف.
بعد أربعة أيام أثيرت مسألة (المحتل) مرةً أخرى؛ حين التقيتُ في مقهى الجماهير بباب المعظم ظهيرة الثلاثاء ٢٠٠٣/١٢/٩ م عدداً من الأصدقاء منهم الناقد محمد يونس محمد ، والكاتب عبد الأمير المجر.
تحدثت في البدء مع الناقد محمد يونس محمد بشأن المصطلحات الجديدة التي ظهرت في الخطاب الإعلامي والسياسي مثل : الفصل بين السلطات الثلاث، والفدرالية ، والتداول السلمي للسلطة، والجندر، وغيرها.
قلتُ له : إنَّني مدينٌ بالتعرف على هذه المصطلحات لرجلٍ قانونٍ لبقٍ، ومحللٍ سياسيّ جيدٍ ألقى علينا في مسجد الإمام المنتظر في مدينة الحرية ببغداد محاضراتٍ تثقيفيةٍ بعد صلاة العشاء خلال شهري تموز، وآب من هذه السنة، ولم يكن ذلك الشخص سوى المدير الحالي لتلفزيون العراق السيد حسن الموسوي !
فاجأني الناقد محمد يونس محمد بالقول : إنَّه زامل السيد حسن الموسوي (صار رئيساً لشبكة الإعلام العراقي سنة ٢٠٠٨ م بعد تعيين رئيسها السابق حبيب الصدر سفيراً في الفاتيكان!) في إلقاء محاضراتٍ ثقافيةٍ مع مجموعة من المثقفين في بيوت مدينتي الحرية والشعلة غربي بغداد قبل سقوط النظام ـ مع خطورة ذلك العمل وقتها ـ وهو العمل الذي مارسه الموسوي بقوةٍ بعد سنة ٢٠٠٣ م في مساجد الحرية ، برغم التساؤلات المرتابة التي كان يواجه بها بشأن انتمائه الحزبي ! وقبل عمله في قناة (الأنوار) ، وقناة (العراقية) ، وقد استفاد منه كاتب السطور كثيراً في محاضراتٍ بدت جديدةً في الموضوع، وطريقة العرض الرائعة، ولحسن الحظ كنتُ أحتفي بها بتدوينها مرتين : مرةً في الذاكرة، ومرةً على الورق !
كان الموضوع الذي طرحه الكاتب عبد الأمير المجرهو شرعية التدخل العسكري الأمريكي لإسقاط صدام .
قال المجر : إنَّ الأحزاب المعارضة لصدام كانت تتهمه بالعمالة لأمريكا ، وهي الآن تقوم بالعمل نفسه !
ليلاً تابعتُ حلقةً من برنامج (الاتجاه المعاكس) على قناة (الجزيرة) الفضائية .
كان الموضوع هو :(هل تؤيد استعانة المعارضة بقوات أجنبية؟)
وكان المتحاوران معارضين : الأول من سورية اسمه (جان كورد)، والثاني من تونس اسمه (توفيق المثلوثي) الذي كانت أفكاره تصلح للنشر والترويج في الستينيات من القرن الماضي !
وانتهت الحلقة بأنَّ (٤٥) في المئة من المستفتين يؤيدون الاستعانة بقواتٍ أجنبيةٍ لإسقاط النظام ، مما يشي بتغير المزاج العربي بشأن جدلية الفرق بين الوطنية والعمالة !
ومن المحزن أن تقتنع نسبةٌ كبيرةٌ من الشعب أنَّ الحصول على الحقوق المشروعة لا يكون إلا بظل الاحتلال !
(السيرة مستمرةٌ.. شكراً لمن صبر معي.. يتبع)
شروح صور
١. صدر الدين القبنجي
٢َ. كامل سلمان الجبوري
٣. محمد يونس محمد
٤. عبد الأمير المجر