الطبيعة في كتاب ” في ضوء ضفائرها تستحم الينابيع ” لـ” مازن دويكات “
رائد محمد الحواري | فلسطين
بطبيعة الحال العنوان يأخذنا إلى الطبيعية والمرأة، فهناك تداخل بين المرأة والطبيعية في ، “ضوء ضفائرها، تستحم الينابيع” وبما أن الكلمة الأولى “ضوء” والكلمة الأخيرة “الينابيع” وهما متعلقتان بالطبيعية، فإن هذا يشير إلى تقديم الطبيعية على المرأة، التي تأتي في (حضن) الطبيعة، وهذا الأمر نجده في المجموعة، فكانت الطبيعة أكثر حضورا وأثرا في الشاعر، حتى أنه جعلها السبب/المكون لعناصر الفرح الأخرى، المرأة، الكتابة/الفن، التمرد، فالطبيعة عند “مازن دويكات” بمثابة الأم، التي تنجب الابناء والبنات، وهذا ما نجده في فاتحة نصوص الكتاب والتي جاءت تحمل عنوان المجموعة:
“يا الله كم أنا ممتلئ بك، لم يعد حيزي يحتمل هذا الانتشار الطاغي، ها أنا أهتف في هزيع الجنون والقلق: يا رب زد مساحاتي الروحية، ربما أحتمل اتساعاها المدهش، وزد سقف فضائي علوا، ربما استوعب بهاءها الحاني، كم أنا صغير صغير، أمام هذا الملكوت الملائكي، خذ بيدي يا الله لأكون قادرا على احتواء، وخذ بيدها لتكون قادرة على الوصول إلى سريرها في شرفة الروح، ربما تستفيق بعد قليل، وتهبط، تغتسل بضوء يومنا المتسلسل من نوافير السماء، بعد ذلك تحمل سلالها المنسوجة من سنابل القمح وتغطس في ضباب، بيدها التي تشبه أوراق الكرمة تجمع زعترا وقرنفلا” ص 12و13، فكرة النص بيضاء، والالفاظ كذلك، والجميل في طريقة التقديم ان الكاتب يستعين بالله ليقدر على (غدق المزيد من هذا الجمال والبهاء، فالشاعر لا يطلب سعةً في المال، بل سعة في التمتع بالطبيعة وما فيها، فالحواس التي يمتلكها أقل من أن تلبي حاجته الجمالية والروحية، فبدت عاجزة أمام عظمة الطبيعة واتساع جمالها وبهاءها.
ثم تدخل المرأة من خلال “تستفيق، تهبط، تغسل، تغطس” حتى أن المتلقي يستغرب (دخول المرأة) على الخط، فالكاتب مررها بسلاسة وهدوء
دون أن يشعر القارئ بدخول (عنصر آخر) وهذه السلاسة تحسب للكاتب، الذي يتقن فن الكتابة، حيث يمرر ما يريد بانسيابية (ودون ضجيج)، حتى المرأة نجدها بنت الطبيعة، امرأة ريفية، امرأة بيت الطبيعة، وهذا ما يجعلنا نقول أن الطبيعة عند “مازن دويكات” هي (الخالق/الموجد) لعناصر الفرح الأخرى.
يؤكد الكاتب على مكانة الطبيعة وأثرها عليه:
“حاسمة أخرى تكفي، ربما بها أستطيع مواجهة نهر الموسيقى، نهر بمنبعين. منبع ينبجس من ضوء الأصابع، ثم يسيح من الوتر الخامس المشدود بين فراغين، منبع يتموسق من شفتين من كرز وعناب، إلى أين تأخذني ايها النهر السماوي المقدس، أنا من الأرض وإليها أعود، وانت في الأعالي ومن الأعالي تنهل، لي فيك ما هو ارضي، ولك في ما هو سماوي ولي فيك طريقان من نهود وكرز وعناب، ولك مني الإصغاء حد التلاشي والذوبان على العتبات الخضراء …ارفرف في فضائه بجناحين من موسيقى، دون الدخول في تفاصيل الريش، لونه ونعومته. هنا التوازن والتساوي من فرضيات سلامة الوصول، فالمفاضلة بين الأجنحة قد تخل في معادلة التوازن” ص13و14، نجد أثر الطبيعة على الكاتب من خلال استخدامه المثنى، إن جاء بصورة مباشرة كما هو الحال في: “بمنبعين، فراغين، شفتين، طريقان، بجناحين” أو بصورة غير مباشرة: “التوازن (مكررة)، التساوي، فالمفاضلة” فهذه الالفاظ تشير إلى المثنى بصورة غير مباشرة، فالتوازن والتساوي والمفاضلة كلها يستدعي وجود قوتين/شخصين، وهذه اشارة إلى المثنى، وهي تعكس رغبة الكتاب في التماهي مع الطبيعة/المرأة، ويضاف إلى ما سبق وجود ألفاظ مكررة مثل: “نهر، كرز، عناب، الأعلي، الموسيقى،” وهذا يشير إلى أثر العقل الباطن على الكاتب، والتي نجدها في النصوص، فالثنائية تعني أن هناك رغبة جامحة عند الكاتب للتوحد مع الآخر الطبيعة/المرأة، وهنا يكون الكتاب قد قدم نموذج آخرى على علاقته بالطبيعة، التي أوجدت عناصر الفرح الأخرى، المرأة.
أما عن علاقة الكاتب كأديب/كشاعر مع الطبيعة فنجدها في هذا المقطع: “لا يوم لي خارج عينيك
من أيام الاسبوع
إلا أن أقرأ شعرا بين يديك
وأبشر مثل يسوع
….
في الصباح المبكر، كما يحمل الحطابون فؤوسهم والحصادون مناجلهم ونساء الينابيع جرارهن الفخارية، أحمل أناشيدي وأغطس في ضباب حقول عينيك، أكد وأكدح في ترتيله، من شروق الأقحوان إلى مغيب السنبلة، …أغطي في حقول عينيك الجميلتين، أقرأ واتعلم وأغني من شروق الصهيل إلى مغيب النرجسة” ص29، فاتحة المقطع الشعرية تشير إلى مكانة الطبيعة المقدسة، فهي الملهمة/المانح/المهيء للشاعر (طقوس) الكتابة وتلاوة الشعر، وهو يعطي صفة مقدسة لما يكتبه “وأبشر مثل يسوع” لأنه كتب من الطبيعة، وإلى الطبيعة، وعن الطبيعة، أما المقطع النثري فلا يقل جمالا عن الشعري، حيث قدم صورة صباحية للقرية بطريقة ناعمة وهادئة، واقرنها بعمله كشاعر/ككتاب، فالطبيعة هي سبب وجود “مازن” ككاتب/كشاعر، هذا ما نجده في هذا المقطع: ” ليكن ليس حبا ما أنا فيه، ليكن فخاخا ذهبية مطمورة بين أثلام بساتينك اليانعة، وشباكا منصوبة حول ينابيعك العذبة استدرج نحوهما عصافير الحروف وقبرات الكلام وبلابل القوافي” ص33، رغم القسوة التي جاءت في الفاظ: “ليس، فخاخا، مطمورة، شباكا، منصوبة” إلا أن المعنى ناعم وجميل، وقد استطاع الشاعر أن يلغي هذه القسوة من خلال أثلام البساتين اليانعة، عصافير، وقبرات، بلابل”
ينقلنا الكاتب إلى أجواء المدينة ويحدثنا عن الكتابة بطريقة جديدة، منها نستطيع التفريق/التمييز بين أثر بيئة الطبيعة/الريف عليه وأثر المدينة:
” آن لي أن أخرج من باب السرد
دون طعنة أو إصابة
قلت أني مريض
حتى أقاصي “صيدلية” الأبجدية
وأني مصاب بحواسي الخمس
وعلتي: داء الكتابة
سريري نجرته من خشب المفردة
آه أيتها الأوردة
أسعفيني بالمداد
فأمامي لا ينتهي
بعمرين من النقش في حجر الورد
سأخرج من باب الشعر
لأدخل ثانية ممرات السرد
ما أبعد الطريق ما أقرب الوصول” ص100، حجم السواد في القصيدة ناتج عن عدم حضور/وجود الطبيعة التي يتغذى منها الشاعر، فبدت قصيدته أرض (قاحلة) تنتظر نزول المطر، وبدا الشاعر مريض/كسيح يستجدي الشفاء، فعدم وجود ألفاظ متعلقة بالطبيعة، جعله بمريض نزيل الفراش، يصارع مرض “الكتابة/السرد/الشعر” كان من المفترض ان تنعكس عليه الفاظ الكتابة إيجابيا، فهي احد عناصر الفرح ، لكن (تركيبة/ذهنية) الكاتب التي تعيش وتتغذى من الطبيعة وبالطبيعة، لم تستطع أن تتكيف مع (الكتابة) رغم مكانتها المهدئة والفرح الذي تحمله، وهنا يتأكد لنا ان الكاتب (يتوه) في صحراء الألفاظ أذا حجب عن الطبيعة، ولكي تخضر قصيدته/كتابته ما عليه إلا التقدم ممن كونه واوجده، الطبيعة/الريف.
عندما يستخدم الكاتب عناصر الفرح، “الطبيعة، الكتابة، المرأة” نجد النص بهذا الشكل:
“أيتها الحنطية إلا قليلا هذا القليل استأذن اكتمالك رحمة بالنساء.
لك وحدك هذا “الكونشرتو” الكلمات تعتصر الموسيقى حتى أقاصي الغناء
هذه السمره نشيد أناشيد وبياض القلب عزف كمنجات
ومنك القمح سرق لونه الحنطي المضاء
هو ذا أنين رخامك أجراس تقرع في صخر الجسد، أملس تتقطر منه الأنداء
رائحة الخصب تسيل بإبريق النشوة ما أعذبني ثملا منك
وفيك الإقامة وطن ذهبي الكبرياء
بكت “أسيا” في لوعة لإفريقيا فيك وأنا خضرة الأرض وأنت زرقة السماء
لا لون يزهو دونك ومن سواك يمنحه تأشيرة لحقول الحرير.” ص110، إذا ما توقفنا عند النص سنجده شبه مطلق البياض، يجتمع فيه المعنى مع اللفظ في خدمة فكرة البياض، وهذا جاء من خلال استخدام الكاتب ثلاثة عناصر للفرح من أصل أربعة، فنجد التناغم بين جمال الجسد وروعة الطبيعة وبهاء الكتابة/الموسيقى، كل هذا واضح في المقطع، لكن تستوقفنا هذه الفقرة: “وأنا خضرة الأرض” فالكاتب يربط نفسه بالخضرة ويقرنها به وليس بالكتابة او بالمرأة، وهذا يؤكد على أنه كاتب طبيعي/ريفي، فعلاقته بالطبيعة تتميز عن بقية العلاقات، حتى مع الكتابة/الأداة التي تظهر مكانته ودوره ككتاب/كشاعر.
من هنا يمكننا القول أننا امام كتاب جديد في شكله الأدبي، يجمع بين الشعر والنثر، لكن حضور الطبيعة/الريف هو الذي اعطى الكتاب ميزة عن سواه من الكتب. الكتاب من منشورات وازرة الثقافة الفلسطينية، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2020
Aa