أزمة الإسلام….. قراءة هادئة

أ.د. إبراهيم طلبة | أستاذ الثقافة والفكر الإسلامي

إن الإسلام كدين هو المخرج لسعادة البشرية في حاضرها ومستقبلها، ولا خلاف في أن منهجه ونصوصه المعصومة المقدسة هي صِمَام الأمان للبشرية مما تواجه من مشاكل وعقبات.
إن هذا الدين العظيم يحمل من مقومات الثبات والبقاء، ومن جوانب العظمة ما لم يتوفر في دين آخر، ولو أنصتت البشرية – بصدق- لتعاليمه، واستمعت لصوت الوحي، وطبقت منهاجه، وسارت على هديه؛ فستجد فيه طوق النجاة من شقائها وبؤسها، والمخرج الحقيقي لها من أزماتها المادية والروحية.
ولقد جاءت عبارة: “إن الإسلام يعاني أزمة في العالم” على لسان الرئيس الفرنسي: ماكرون، مدفوعاً بخلفيته وأيدولوجيته العلمانية اللائكية المتعصبة ضد كل مظهر للإسلام؛ لتحرك مشاعر الغيورين على هذا الدين، – وأتشرف بأني واحد منهم- وسارعوا عبر المنصات المختلفة للدفاع والرد على هذه العبارة المسيئة.
والحقيقة أني راغب أن أخرج من دائرة الدفاع الضيق، وردّ الفعل المتسرع، إلى المصارحة الصادقة؛ والمناقشة الهادفة؛ فإن مواجهة الواقع المؤسف والاعتراف به جزء رئيس من العلاج، وأكثر ما يقلقني أن يعتمد مفكرونا وعلماؤنا على ردّ الفعل تجاه المواقف والأحداث، واستدعاء ماضينا المجيد، وتاريخنا العريق، وحضارتنا الأصيلة، وتراثنا العظيم، وهذه أمور كلها حق، ولكن هل تغني عنا شيئاً، إذا قصّرنا في المبادرة والإسهام بفاعلية عملية في تلمس سبل العلاج لواقعنا، ومداوة جراحنا الفكرية، من أجل إبراز عظمة هذا الدين، والسعي في خدمة قضاياه الصادقة، ومنهاجه المستقيم، وحسن تقديمه للبشرية .
إن الإسلام كمنهج ورسالة ونصوص مقدسة معصومة ما جاء لنتباهى به، ونتغنى شكلياً بمنهجه، ونقف عند التنظير المجرد، إنما جاء للتطبيق والتأثير في واقع الفرد والجماعة.
وهذا ما أحدثه الصحابة المتلقون للوحي الشريف أنهم ما وقفوا عند حدود الانفعال الظاهري بالمنهج؛ إنما تجاوزوا ذلك إلى تحويل هذا المنهج إلى صورة عملية ظهر أثرها الحضاري والريادي على بقاع الأرض، واستحثوا الآخر على اعتناق الإسلام عندما جسّد الصحابة نصوص الإسلام تجسيداً صحيحاً؛ فكانوا إسلاماً يتحرك بحيوية وفاعلية، واستجابوا لربهم وتعاليم شريعته.
بناءً على ذلك أقول: إن الإسلام كدين عظيم مقدس لا يمكن أن يعاني أزمة ولا أن يكون مأزوماً يوماً ما، ولكن قد ينظر إليه البعض أنه يعاني ازمة من خلال الحكم عليه من تصرفات المسلمين المنتسبين إليه وواقعهم، وهو من هذا المنظور يعاني أزمة جعلت الآخر يتطاول على الدين ومنهاجه، لأنه لا يعرف الإسلام كنصوص، إنما يبصر تأثير الإسلام في أتباعه ومنسوبيه:
أزمة الإسلام: في أبنائه الذين لم يترجموا تعاليمه إلى صورة حية متحركة في حياتهم كمنهج حاكم عملي لسلوكهم وتصرفاتهم، وعلاقاتهم بالآخرين على شتى المستويات.
أزمة الإسلام: في الفهم المنحرف لمنهجه إفراطاً وتفريطاً، ما بين طائفة جعلت من الإسلام مسرحاً للعنف والقتل، وصورة للتشدد والتزمت، وطائفة أخرى ميّعت أحكام الشريعة، وتساهلت في تطبيق أحكامه، وسارعت في تكييف منهج الإسلام وفق هواها ورغبتها، وميولها وتصورها: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله).
أزمة الإسلام: في عجز أبنائه عن التعايش والحوار، لا أقول مع المخالف في العقيدة؛ بل مع المخالف المسلم، في إطار التعددية الرحبة التي أتاحها الإسلام؛ فعمليات الاستقطاب حادة، تصل إلى حد الاتهام بالخروج من الدين، لم نبحث عن المشتركات التي تجمعنا، بل نبذل الوسع في تلمس دوافع الافتراق، والانفصال والانفصام النكد.
أزمة الإسلام: في الانشغال بالجزئيات على حساب الكليات، وتضخيم الفروع، وتصغير الأصول، حتى أصبح العقل المسلم متخماً بالجزئيات والفرعيات أكثر من إدراكه للمقاصد الكبرى، والمصالح العظمى، ويبدي بعضهم حماساً منقطع النظير للدفاع عن أمور مستحبة أو مرغوبة، وهو نفسه متقاعس عن إقامة فرائض محسومة، ورحم الله شيخنا الغزالي عندما قال: “إن امرأة ذات دين أفضل عند الله من ذي لحية كفور”.
أزمة الإسلام: في الأقليات المسلمة التي تترنح في هويتها الثقافية، ولم تحسن معالجة ظروفها الراهنة، ولم تخطط لموقعها المستقبلي، ولم تحرص على التكامل في إطار الشريعة بين أبنائها، بل فرقتها التيارات والمذاهب والاستقطاب من الأفكار المختلفة، والعجز عن الاندماج مع المجتمع الجديد، والانفصام عنه، وعن قضاياه.
أزمة الإسلام: في افتنان أبنائه بالمناهج الغربية، والسعي ورائها تقليداً وتطبيقاً بدون هدى ولا تبصرة، والابتعاد عن منهج الإسلام والهروب منه بقدر الارتماء في أحضان الحضارة الغربية، والانتماء الصادق إليها والدفاع عنها، والانسلاخ من المسلمات والثوابت.
أزمة الإسلام: في العجز عن تقديم الإسلام للبشرية، والقعود عن إبراز منهجه؛ وتأثير تعاليمه، وتأثيره الحضاري والتنموي من خلال النظر إلى معدلات الفقر والجهل المنتشر بين أبنائه، وضعف الإسهام الحضاري، والعجز عن الريادة الحضارية، فننتظر من يصنع لنا، وينتج لنا، ويقرأ لنا، ويخترع لنا، ونحن المخاطبون في نصوص الإسلام بتسخير الكون، والاستفادة من معطياته، والمأمورون بعمارة الأرض.
أزمة الإسلام: فينا نحن عندما لم نحسن التلبس بالإسلام كما فعل الصحب الكرام، ولم نحسن فهمه، وحولناه إلى شعائر جامدة، لا تحرك ساكناً، ولا تؤثر في سلوك، ولا تبني أمة، ولا تشيد حضارة.
إننا يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا نحن أزمة الإسلام، وعبء عليه، وبقدر ابتعادنا عن منهجه نعمق هذه الأزمة ونتسبب في تعقيدها، وبقدر نجاحنا في فهم الإسلام وحسن تقديمه للبشرية من خلال تطبيقنا له، وتأثيره في منهجنا وسلوكنا وحضارتنا عندئذ نكون فعلا سفراء صادقين عن إسلامنا وديننا الحنيف.
وما من شك أن الخير في الأمة باق، وأن المصلحين باقون، وأنا هناك قطاعاً عريضاً يجتهد في الالتزام بالإسلام، وتطبيق تعاليمه وأحكامه، لكن لا بد مع ذلك من المراجعة والتصحيح، والوقوف مع النفس ما بين الفينة والأخرى؛ تصويباً للمسار، وتصحيحاً للتصور، وإن هذا الإسلام رغم ما واجه من تنكرٍ وصدٍّ، وإعراضٍ وردّ؛ إلا أنه أضاء نوره في غار تقاس مساحته بالأشبار ثم لم يلبس هذا النور إلا قليلا حتى ملأ الأقطار والأمصار، ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون والكفار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى