ثلاث قصص قصيرة

د. قائد غيلان | أكاديمي ناقد وقاص من اليمن

1.ضـجـيج:

كانت النحلة توزّ وسط الوادي العميق بين شطّين متلاصقين، وكان يتمنطق مسدّسا شرسا وسط قامته الفارعة، هي تداري طنين نحلتها وهو يتجاهل شرور مسدسه. طلقة واحدة من ذلك المسدس تكفي لإسكات كل النحلات التي تضجّ داخل الخلية بِـَـنهم لا يرحم. هو يداعب مسدّسه وهي تصرخ في أعماقها وتردد بحقد: “ما أجبنه وما أجمله”.

كان العسل يسيل وسط الشجرة، وهي تلعن كلّ دِبَـبَـة العالم التي تتجاهل هذه المغارة، وتلعن مسدّسَـه، كان يلزمها في ذلك الوقت دبٌّ واحد ومسدّس ومخزن رصاصات لا ينفد. هاجت النحل داخل الخلية، أحسّت جيشا من النّمل يهرش جسدها الرخو، صاحت من أعماقها يا أيّتها النمل اخرجي من مساكنك، فليس ثمة سليمان ولا جنود ولا دببة تحب العسل، وليس هناك رصاصة طائشة تسكت كل هذا الضجيج، وتنهي كل هذا الألم.

تمالكت شجاعتَها، اقتربت منه، هزّت جِذع نخلته بقوّة،. دوّت رصاصة وسط الوادي كسرت صمت السنين وعطش السنوات العجاف، طارت نحلتُها بنشوة ونشاط تجمّع العطر والعسل للموسم القادم.

***

2.عَجَلة:

كانت أمنيتي أن أكون فارساً، ولسوء حظي لم أمتلك حصانا وليس في بلدتنا نوادي توفّر الأحصنة والتدريب على الفروسية، لكني اشتريت دراجة عادية وتدرّبت عليها كما لو كانت مُهرَةً أصيلة، وبسبب خِفّة وزني كنت أمارس ألعابا بهلوانية أثناء قيادتها، فكنت أسير بها على عجلة واحدة، وأميل بها على كل الاتجاهات، كانت تستجيب لكل رغباتي العجيبة، فتميل معي حتى نلامس الأرض وتصعد معي حتى نطير. عجب الناس من هذا التناغم، فظن بعضهم أن لديها عجلات خفيّة تجعلها قادرة حتى على السير بالمقلوب. كنت أثق في دراجتي وكانت تعطيني ذلك الاحساس بالأمان والشجاعة، إلى أن جاء السيل الذي جرفها من عند الباب إلى السائلة، وفي السائلة أخذت طريقها مع التيار فلم تتوقف إلا في منطقة زراعية خارج المدينة، حيث تصبّ السائلة ماءها كلّ عام. التقفها هنالك شخصٌ مهووس بالآلات المستخدمة؛ أخذها واحتفى بها أيّما احتفاء، ثم بدأ يؤهلها للاستخدام، اشترى لها عجلات جديدة، غيّر المِقوَد والإنارة، ولا فائدة، غيّر كلّ شيء فيها، لكنها بقيت آلة جامدة لا تتحرك، صرف الأموال واستدعى الخبراء والمهندسين لكنهم عجزوا عن جعل عجلة واحدة تتحرك أو تدور. قال له أحد المزارعين انشر إعلانا يبحث عن صاحبها الأصلي، فبعض الآلات مثل الأثوار أو مثل الأحصنة؛ لا تعطي سر قيادتها. إلا لمن درّبها أول مرّة. لم يقتنع الرجل بفتوى المزارع، لكنه صعد إلى قمة الجبل المجاور، أغمض عينيه، وتركها تتدرحرج وحدها في فراغٍ عميق ..

***

3.تسلُّق:

في رحلاتنا إلى خارج صنعاء كنت أفضِّل الذهاب إلى ثلا أو كوكبان، وتصرّ هي على وادي الأهجر. هناك تطلب مني مساعدتها في تسلّق أشجار اللوز الكبيرة، ورغم انهم يمنعون صعود الأشجار إلا أنني أجد وقتاً أغافلهم فيه وأدفعها حتى تصل إلى منتصف الشجرة، هناك تضحك وتغني وتعبث بالأوراق والأغصان الصغيرة.

 هذه المرّة لم تكتفِ بتلك المرحلة، بقيَت تصعد وتصعد وأنا أمسكها وأنقل أقدامها خطوة خطوة حتى تصل إلى القمّة.

في الأعلى كانت الأغصان أرهف من أن تحتملنا معاً، صعَدَت خطوة، وطلبَت مني التراجع، وكأنّها واثقة من قدرتها على العودة وحيدة، تركتُها ونزلت. التفتُّ إليها فإذا بها تعبث بالفروع بكل شجاعة؛ يا إلهي .. من أين لها كلّ هذه الشجاعة وهي التي تخاف الفئران والصراصير والغرف المظلمة .. ؟!

نادتني أنها عطشى وتحتاج قاروة ماء أو زجاجة بيبسي. ذهبتُ سريعاً، وكانت السيارة على مقربة من المكان، وعندما عدتُ لم أجد لها على أثر، بحثتُ هنا وهناك، علّها مزحةٌ من مزحاتها الثقيلة. صعدتُ إلى الشجرة، نظرتُ إلى البعيد، ناديت، دون جدوى. واصلتُ الصعود، ليس إلا مسبحةٌ كانت تلفّها حول معصمها تبرُّكا، وعلاقة مفاتيح، ولثمتُها القديمة.

حين يئست من العثور عليها قرّرت الاستعانة بأهل القرية، في الطريق وجدت راعياً صغيراً، تردّد حين سألته، لكنه قال، بعد أن أعطيته الأمان، إنه رآها تقفز من قمّة تلك الشجرة الكبيرة إلى شجرة أخرى أطول، ثم إلى شجرة أخرى، حتى غابت بين الأشجار الكثيفة ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى