الجماهير والمناظرات العقلية

 

رضا راشد |باحث في اللغة والأدب- الأزهر الشريف

في الألعاب الجماهيرية (وعلى رأسها كرة القدم) يلقى على عاتق الجماهير دور كبير في النهوض باللعبة وتحقيق المكسب؛ ذلك أن الجماهير تقوم بشحذ اللاعبين نفسيا فإذا هم الأسود الكاسرة ينقضون على خصومهم فيدكون مرماهم بالأهداف القاتلة في اللحظات الحرجة. ولهذا يؤثر غيابهم كثيرا على المباريات وأدائها.

ولكن، كما تكون الجماهير – غالبا – عاملا من عوامل نجاح اللعبة وتحقيق أهدافها، فقد تكون الجماهير أيضا عاملا من عوامل إفساد المباريات وفتيلا تشتعل به الأزمات، وذلك إذا ما حاولت هذه الجماهير أن تتقمص دورا غير دورها، فتتدخل فيما يحدث داخل الملعب: كإلقاء كرة من المدرجات أثناء سير اللعب، أو كمحاولة اقتحام الملعب ..إلخ .

هكذا تكون الجماهير سلاحا ذا حدين: ينفع ويضر ..وكما يكون الأمر في المباريات الرياضية كذلك يكون الأمر في المناظرات العقلية، حيث يتوقف دور الجماهير على المتابعة والتقييم فقط، دون التدخل الذي ينذر بعواقب وخيمة.

في هذه الأيام حيث يلتقي مرشحو مجلس النواب بالجماهير فتدور بينهم مناقشات، فيظن أنصار المرشحين أنهم بتدخلهم يساعدون المرشحين، ولكنهم بتدخلهم يفسدون الحوار من حيث يريدون الإصلاح…وهذا خطأ لو يعلمون عظيم.

وفي تأمل بعض حوارات القرآن ما يهدينا إلى ذلك ، وخير ما يوضح ذلك حوار موسى عليه السلام مع فرعون الذي صورته سورة الشعراء .فلقد أرسل الله عز وجل نبييه الكريمين موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون 《فأتياه فقولا إنا رسول رب العالمين○أن أرسل معنا بني إسرائيل》 فأراد فرعون أن يتجاهل قول موسى《 رب العالمين》؛ لأن في ذلك هدما لدعواه الربوبية، ونحا بالحديث منحى آخر تمثل في المن عليه بتربيته وتعيير موسى بفعلته لما وكز القبطي فقتله《قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين○ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين 》، وقد ظن فرعون بذلك أنه نجح في شغل الأذهان عن قول موسى:《رب العالمين》 وأنه سيلقم موسى -بالمن عليه وتعييره- حجرا لن يستطيع بعده التكلم فيما أرسل بشأنه، ولكن موسى -بما حل الله من عقدة لسانه- سريعا ما أفحمه بقوله: {فعلتها إذن وأنا من الضالين○ ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين○ وتلك نعمة تمنها عليَّ أن عَبَّدتَّ بني إسرائيل}، أما القتل يا فرعون فكان قبل أن أشرف بالرسالة، وأما ما تمتن علي به من نعمة التربية، فقد كان سببها ظلما منك لقومي بني إسرائيل حين قررت أن تذبح أبناءهم وتستحيي نساءهم، ولو لم يكن منك ظلم لما ساقتني الأقدار لقصرك ..ثم: ما منُّك عليَّ بتربيتي في قصرك وأنا واحد من بني إسرائيل في حين أنك استعبدت قومي دهرا طويلا؛ فلئن أحسنت إلى واحد من بني إسرائيل فلقد أسأت إلى الآلاف، فانظر كم يكون إحسانك إلى إساءتك تجد أنك أحسنت قليلا قليلا وأسأت كثيرا كثيرا مما يدعوك إلى الخجل لا المن.

وهنا وجد فرعون نفسه عييًّا عن الرد، عاجزا عن إجابة موسى ،فما كان منه إلا أن اضطر للعودة إلى ما ابتدأ به موسى الحوار مما حاول أن يهرب منه من قبلُ《قال فرعون وما رب العالمين》آلان وقد هربت من قبل وتجاهلت؟! أفلما سد عليك موسى باب الفرار عدت مضطرا لما حاولت منه الفرار؟! أمر عجيب. المهم أجاب موسى {قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين}، وفي إجابة موسى عليه السلام ما يبطل ما يدعيه فرعون من الألوهية؛ فلئن كان فرعون يستند في دعواه الألوهية على ملك مصر {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} وما مصر على عظمتها إلا دولة صغيرة في كوكب الأرض المترامي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، لكن رب موسى هو رب السماوات والأرض جميعا. وهنا أسقط في يد فرعون، فلم يجد ما يجيب به إلا أن توجه للملأ من حوله متعجبا معحبا لهم {قال لمن حوله ألا تستمعون} وهذا سبيل من سبل المغالطة يلجأ إليه البعض مدعيا ظهور البطلان في حجج الخصم، وما هي بذلك.ولكن موسى لم يعبأ بكلامه وظل يواصل عرض رسالته: {قال ربكم ورب آبائكم الأولين} فيستند في إبطال ما يزعمه فرعون من الألوهية على حدودية زمانه، وكأنه يقول لهم: إن كان فرعون ربكم وإلهكم، فمن كان ربكم وإلهكم قبل أن يولد فرعون ؟ هذا شان ربكم الباطل، لكن ربي هو الأول فليس قبله شيء {ربكم ورب آبائكم الأولين} ،وهنا لم لم يتمالك فرعون غيظه-وهو الذي حاول من قبل أن يبدو متماسكا أمام ملئه؛ سترا لهزيمته وإخفاء لإفحامه – فاشتط مغاضبا وقال:{إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون}، فوقع فيما حاول من قبل أن ينكره من حيث لا يدري، فاعترف بأن موسى رسول، وبرغم ما ادعاه فرعون من جنون موسى فإن موسى عليه السلام بدا وكأنه جبل من الثبات الانفعالي أمام تهم فرعون وواصل حديثه وكأنه لم يسمع شيئا مما قال فرعون{قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} وكأنه بذلك يقول لفرعون وملئه: انظروا من المجنون فينا: أهو من يتعبد لرب العالمين ربِّكم وربِّ آبائكم الأولين ربِّ المشرق والمغرب؟ أم من يتعبد لبشر لم يك من قبلُ شيئا ولن يكون من بعدُ شيئا؟

وهنا..أفحم فرعون في ميدان الحجة العقلية، وفرغت جعبته؛ فلم يدر ما يقول، ولم يجد ما يلوذ به فرارا من تضييق موسى الخناق عليه، فكان أن لجأ إلى كل ما يلجأ المهزوم عقليا من استعمال القوة المفرطة{قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} ولكن: أنى يبلغ هذا التهديد من رسول الله موسى: أطنين اجنحة الذباب يضير ؟! فقد أجابه موسى بهذا السؤال المعطوف على محذوف {قال أو لو جئتك بشيء مبين} يعني هل ستظل مصرا على سجنى حتى ولو جئتك بدليل مبين: آية قاهرة ومعجزة باهرة تدل على صدق ما ادعيت من الرسالة ؟!

ولم يجد فرعون نفسه إلا أمام سبيلين أحلاهما مُرٌّ: إما أن يجيب بقوله:ولو جئتني ..فيظهر للملأ تعسفه وعدم قبوله الحق وبطلان دعواه الألوهية..وهذا غير مستطاع من فرعون=وإما أن يقول: فأتني به إن كنت صادقا، وهذا ما يريده موسى عليه السلام..وحين تضيق السبل على المرء في المناظرة فلا يكون أمامه إلا أن يسلك السبيل الذي أراده له خصمه فاعلم أنه مهزوم مهزوم، وبالفعل لم يجد فرعون امامه من سبيل إلا أن يطالب موسى بما ادعاه من الآية المبينة على صدقه وإن كان حاول التشكيك في صدق موسى 《قال فأت به إن كنت من الصادقين》فأتى بفعل الأمر《فأت》تعجيزا لموسى، وشكك في صدقه بقوله:《 إن كنت من الصادقين》وعلى الفور: أتى موسى بما توهم فرعون أنه سيعجزه به《فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين○ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين》 وإلى هذا الحد زالت عن فرعون هيبته، وفارقه ثباته، فبدا طياشا خفيفا مرتعبا من موسى، وأنزل عن عرش ألوهيته المزعوم وملكه الزائف، فجعل من نفسه مأمورا بأمر حاشيته، نازلا على رغبتهم 《قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم○ يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون○قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم》..

وهنا محل الشاهد ؛ فلقد كان الملأ حول فرعون أثناء هذه المناظرة مع موسى، ولا شك في أنهم كانوا يستمعون إلى هذا الحوار الدائر بينهما باهتمام كبير، وكانوا يرون تهافت حجج فرعون وتضييق موسى الخناق عليه في كل مراحل الحوار ..ومع ذلك ما استباحوا لأنفسهم التدخل في الحوار -مع محوالة فرعون الاستعانة بهم على استحياء لما خاطبهم قائلا؛《ألا تستمعون》-إلا عندما طلب فرعون تدخلهم بصريح كلامه 《فماذا تأمرون》وذلك أنهم يعلمون ان تدخلهم في الحوار سيفسده وسيظهر قلة ثقتهم في كبيرهم وأنه لا يستطيع الصمود أمام موسى، وهو ما كانوا حريصين على إخفائه .

ألا فليعلم الملأ من حول كل زعيم أو متزعم أنه لن يغني عنه في حواره إلا حجته القوية ومنطقه السديد، وأن تدخلهم في الحوار -إخفاء لهزيمته- سيكشف عنه سوءته ويظهر للجميع عورته فيتحقق تفيض قصدهم..ويا ليت قومي يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى