اقرأ الكتاب أدنى المقالة.. “رحلة الشتات والصين موضوعية التاريخ وذاتية السيرة”

ناصر أبو عون
يكشف عدنان جبَّار الربيعي في كتابه (رحلة الشتات والصين)، عن وجهه الروائي، وينكأ (الجرح العربيّ)، ويغرس سكينته في (الجرح العراقيّ)، ويحشو جمجمته المهترئة بملحٍ أُجاج، مع هذا الكتاب لا نعيش (رحلة شتات)؛ بل يجْبُرنا عدنان الربيعيّ على (خلع الأقنعة)، و(جلد الذات) في كومةٍ من رماد تختبئ تحتها نيران كثيفة خلعوا عليها اعتباطًا عنوان (الوطن العربيّ الكبير).

ومن إحدى (زواياه) المثخنة بالجراح، والمحشوةّ بالألم الذي أصبح طقسًا اعتياديًا، وعدَّادًا إلكترونيًا للقتلى والمشردين والنازحين على ضفاف دجلة والفرات الفارين من العربات المفخخة، والأحزمة البشرية الناسفة يحاول المؤلف عبر (يومياته) تفجير مخزن بارود من الأسئلة، ليكشف لنا عن حجم المأساة الكبرى التي شاركنا فيها جميعًا بلا استثناء؛ كلنا غائصون في (وحل العراق) من شعر رأسنا إلى أخمص قدمينا.. كلنا – بحذف عدا وخلا وإلا وجميع أدوات الاستثناء من قاموس اللغة الأسيرة – لصوص ومتآمرون على العراق وحضاراته فجَّرنا أجسادنا، وقنابل أدمغتنا المهترئة على (أبواب بغداد)، وبمراهقة سياسية، مغلّف بحقد تاريخي مختزن أسقطنا (ورقة التوت الأخيرة) التي كانت تغطي (وجهنا الحضاريّ المدّعى).

لو أنني (كنتُ وزيرًا سلطويًا)، أو (حارس ظلٍ) في أيّة حكومة عراقيّة، أو موظفًا حكوميًا رفيع المستوى (يسكن المنطقة الخضراء) في عاصمة الخلافة لأصدرتُ مرسومًا حكوميًا بتدريس كتاب (عدنان الربيعي) في جميع المراحل الدراسيّة مع قناعتي أن هذا الكتاب (قنبلة وعي منزوعة الفتيلُ) تفجيرها يُقارب على (إشعال زبالة مصباح العقل العراقيّ)، ويستهدف (إخراجه من زنازين الطائفية، والمذهبيّة، والاثنيّة، والعشائريّة) إلى (بحر الإنسانيّة المتسامح مع كل الثقافات، والمتحاور بكل اللغات)، و(المستفز للاستنهاض)، و(المحرِّض على الاستقلال).
إنّ هذا الكتاب يؤسسُ لمنهجية جديدة في التعاطي مع (الإنسان العربيّ من المحيط إلى الخليج)، و(يتصالح مع العالم)، و(يستنهض الأمة، ويوقظها من رقادها، وسباتها، وسكاتها)، ويعيد إحياء تاريخها، ويستنير بتراثها الثقافي)، و(يحيي مواتها) و(يجدد خطابها)، ويستعيد (ثوبها الحضاريّ) الذي انتزعوه عنوةً وكشفوا عورتها، وألبسوها (أسمالا مهتكةً)، و(أعاروها خرائط ورقيّة منقوش عليها حدودها الوهميّة، وقالوا لها إنّ (لبن العروبةِ منزوع الدسم)، وأنّ العلاقةَ مع المحتل مشرعنةٌ وولادةٌ جديدةٌ للوطن بلا ألم، وأنّ (معاهدات الدفاع المشترك) فرصةً للقصاص من أبناء الخؤولة والعم، وتحت (حقوق الحماية مسبقة الدفع) (نهبوا إبداعها)، و(استباحوا ابتكارها)، و(هجّروا عقولها) و(سطوا على فنونها).
يحكي (كتاب: الشتات والصين) قصة الصين الحديثة التي هي بمثابة امتداد طبيعي للإمبراطورية الصينية القديمة بعاداتها، وأعيادها، وتقاليدها، وكيف انتقلت مع (ماوتسي تونج) من مجرد (عبيد) إلى دولة (عظمى) رفعت شعار: (مواطنون لا رعايا)، ومن (مزرعة نامية) إلى (أمة راقية)، ومن (دولة طبقيّة) إلى (دولة مواطنة).
إنّ البناء الفني للكتاب ربما يكون جديدًا في ثوبه حيث نجح الكاتب بتلقائيته في إبداع توليفة، أو صيغة إبداعية متطوّرة؛ يمكن أن نطلق عليها بحق (كتابة عبر نوعيّة)، أو (نصوص إبداعية) جمعت مجموعة من السمات الفنيّة، وأخذت من كل فنٍ بطرف.
أخذت يوميات عدنان جبّار الربيعي من “البيوغرافيا” عنوانا لـ(حياة كاملة)؛ مصاغة بأسلوب روائي، يتمثل فيها طريقة البلجيكية أميلي نوتومب، في كتابها «بيوغرافيا الجوع» ويستعيد طفولته، ووجه أمّه، ومغامراته الطفولية في أزقة وشوارع بغداد، وطرقاتها المرصوفة بالإهمال ويتناص الكاتب مع نوتومب في رحلته المتشعبة في مدن الصين شبه القارة بينما نوتومب تنقلت في بلدان مختلفة، قادتها إليها وظيفة والدها الدبلوماسي. وفي قلب الرواية، يكمن الجوع. وسرّ الجوع، أكان شرهاً أم سعادة أو مأساة أم حسرة، وفي الكتابين يتفق الربيعي مع نوتومب في كشف سر البحث الدائم والكامن عن إنجاز صعب المنال، يشرح تاريخ الشعوب كما الأفراد.
من الفن السينمائي يشتغل الربيعي في كتابه على (ثيمة الوثائقية)، وحاول إيصال حقائق، ووقائع حدثت بالفعل بين (بغداد العراقية ومدينة ووهان الصينية) بشكل يهدف إلى جذب المشاهد إلى المفارقات والمتضادات، والسيم المشتركة بين الشعبين والحضارتين، ويسعى إلى إيصال فكرة (العمل الجماعي، والاتكاء على التراث والانطلاق منه نحو بنية حضاريّة حديثة) كما عند الصينيين، يضمِّن سطوره بسرد كم كبير من المعلومات غير أنه أدخلها في نسيج البناء القصصي فقطع بذلك رتابة وملل القارئ وانتقل به إلى لوحات جديدة، ومتتالية من (الدهشة) بشكل واضح وسلس أو مثير للإعجاب.
ونجح عدنان الربيعي في اقتطاع وحدة (الزمان، والمكان) من (فن الدراما)، واتكأ على (وحدة الحدث) حيث يبدأ كتابه عند تفجّر الصراع النفسي الداخلي، مع بداية تكوّن (هاجس السفر إلى الصين) غير أنَّه (حدث جمع بين صفات ثلاث هي (الواقعية، والبساطة، والتركيب). ومن ثَمَّ يمكنه ككاتب إعادة كتابة الأحداث مرة أخرى بشكل روائي بعد التخلّص من الحواشي التي تتمتع بها (المذكرات واليوميات).
 لقد نجح عدنان جبَّار الربيعي في (توليف) (نصّ إبداعيّ ثريّ) يتكئ بيُمْنَاه على (ناصية السيرة الذاتيّة) فيروي لنا قصة حياته ما بين بغداد والصين، ويسجِّل خبراته ومنجزاته. ويقبض بيُسْراه على استراتيجية (فن المذكرات) مشتغلا على ثيمة (وصف الأحداث وتعليلها)، وبخاصة تلك التي لعب فيها دورا أو تلك التي عايشها أو شاهدها من قريب أو بعيد، ومن هنا يمكن توصيف كتاب (رحلة شتات والصين) بأنه (منزلة متوسطة) بين (موضوعية التاريخ)، و(ذاتية السيرة الشخصيّة).
وعبر (ثلاثين مقطعًا (طوليًا تارة)، و (مسْتَعْرَضًا تارة أخرى) يقصُّ علينا عدنان جبّار الربيعي (حياة كاملة)،    وعلى جانبيها يسرد لنا (حكايات تنزُّ وجعًا مغلفًا بالفرح) من ذاكرة (الفتى العراقيّ) الذي لم تغادر حضنه رائحة أنفاس أمّه التي ما زالت تضمخ الكلمات المسرودة برائحة كربلاء التي لا تجف من على ثوب الخطيئة الأولى، والثانية والثالثة التي ارتكبها (عشّاق الدنيا والملك) بحق آل البيت. وإن شِئْنا الدقّة يمككنا القول إنّ المؤلف يُتحفنا بـ(قصاصات يوميّة من كتاب حياته) يحكي لنا قصصًا متداخلة، ويستعرض أفكارًا متقاطعة من تاريخ الشعبين العراقي والصيني.
وبرع عدنان الربيعيّ في اختيار 29 مقطعًا شعريًا لثمانيةٍ وعشرين شاعرا من شعراء امبراطورية الصين باستثناء امرأة واحدة ليتصدّر به كل مشهد من (يومياته)، وتكمن براعة المؤلف في نجاحه في خلق حالة أو طقس توافقي بي (المقطع الشعريّ الصيني المختار) مع (النصّ الربيعيّ) التالي للمقطع، والفكرة التي يتمحور حولها النص ومن دقّة البراعة لديه أنّ الجملة الافتتاحية للمشهد اليوميّ الذي خطَّه عدنان الربيعي بيده جاء مُصاغًا، ومكتوبًا بلغة شعريّة عالية، ومتدفقًا من (نبع البلاغة الصافي) الذي يتحدّر من أعالي (دجلة)، ويترقرق من (حصباء الفرات) فجاء مسكوكًا بــ(الاستعارة الصافية والمركبة تارةً)، ومحمولا على (صور شعريَة مقطوعة من أحجار العتبات المقدسة تارةً أخرى)، وملفوفًا في (ثوبٍ من حرير المعاني، والغزل العراقيّ) نسجته الأوجاع العراقية بإبرةِ الإبداع.
وتتبدى عبقريّة صاحب كتاب (رحلة شتات والصين) في إتقانه مهارة (التضفير الفنيّ)، والقبض على فنيّة (التناصّ التاريخي)، واستدعاء (الميثولوجيا العراقية ونظمها في سلك الحكايات الشعبيّة الصينيّة)؛ ليخرج لنا في النهاية بــ(نصّ عربيّ فائق) بتعبير (تكنولوجيا وعلوم الاتصال)؛ فعندما تدخل إلى (دهليز النص الربيعيّ) كتاب (رحلة الشتات والصين) سوف تجد الحكايا تتناسل، وتتولّد الصورة وتتشظى إلى مشاهد قصيرة، وعلى هامش كل حكاية يستطيع القارئ أن يستحضر الأصوات، فتقرأه الحروف، وتتهجّاه المفردات،  و تستثيره الأنفاس، فيستنطقُ صمتَ أوجاعه، وتنقله من حالة (المتلّقي للحدث) إلى (حالة المشارك في صناعة الحدث)، ومن (دور المفعول فيه داخل النص والمشهد) إلى (وضعية الفاعل).

لتنزيل وقراء الكتاب.. اضغط هنا:

رحلة الشتات والصين 1(1)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى