الدّلالات و التّحدّيات في رواية [بنسمايا ] لـ{مصطفى القرنة}

إسلام قريع | ناقدة وأديبة – المملكة الأردنية الهاشمية

كثر هم أدباؤنا العرب، ممّن يجمعون بين الحرفة في اللّغة و الإبداع ، و في سماء أردنّنا أسماء تبرق لتضيء عتمة الرّتابة والملل الّلذانِ أصابا الأدب في الآونة الأخيرة، كلنّا نقرأ روايات و كتابات أصابتها عدوى التّكرار، فأصبحت اتّجاهات القرّاء إلى نوع واحد من الرّوايات الأدبيّة و الّتي شهدنا منها الكثير في ساحة الأدب الرّوائيّ، سواء على مستوى الأردنّ أم الوطن العربيّ بشكل عامّ.

وعندما نقول أدب الرّواية في الأردنّ فإننا نرى أسماء قد حصدت المراتب الأولى على مستوى الإبداع و التّجديد، وحصلت على اهتمام النّقاد المتخصّصين وغير المتخصّصين على حدّ سواء.

ومن أبرزهم في السّاحة الثّقافيّة الأردنيّة: مصطفى القرنة، و مؤنس الرّزّاز، ليلى الأطرش، هاشم غرايبة، وغيرهم العديد من المبدعين النّشطين، ونخصّ الحديث في هذا المقال عن الرّوائيّ النّاشط والّذي تميّز بعمله المتواصل، و إثراء بستان الثّقافة عاما بعد عام برواياته و دواوينه الرّائعة، الرّوائي والكاتب والشّاعر مصطفى القرنة.

جمع بين الشّعر والنثر جمعا يليق بإبداعه وتميّزه، برزت ملامحه واضحة في كتاباته الشّعرية والنثريّة، كما و أثرى نصوصه على الصّعيدين (الشعريّ و النثريّ) بثقافته الواسعة في ميادين عدّة من أدب و سياسية و تاريخ، خاصّة الأخيرة تلك فقد زخر أدبه بها وانفرد عن غيره من خلالها.

مَنْ يقرأ للقرنة يجد روح التّجديد، والحيويّة والغرابة، ويعمّ على كتاباته الطّابع الغرائبيّ و الأسطوريّ خاصّة في رواياته الأخيرة، مثل: المدرّج الرّوماني، بنسمايا، وفئران لاغوس.

بنسمايا، محور الحديث في هذا المقال، رواية أصدرها القرنة في عام 2018 م حديثة الولادة، عن دار الإسراء للنّشر والتّوزيع ، وبدعم من  وزارة الثّقافة الأردنيّة، تحدُّها 292 صفحة، خلق فيها روحا جديدة للرّواية العربيّة ، بطولة شخصيّة الشّاعر فلاح  وجنّي  بابل العراقيّة الّذي يدعى بنسمايا، وهو جنّي يرافق الشّاعر فلاح .تعرض الرّواية صورا متخيّلة عن الحضارة البابليّة القديمة في إرثها وعاداتها و تقاليدها، وخرافاتها الّتي كانت تتبعها في مأكلها ومشربها، وغيرها من الموروثات المتّبعة لديهم، كأيّ حضارة مرّت على التّاريخ.

يتفرّد هذا العمل الرّوائيّ ويتميّز عن غيره من الأعمال على أنّه يوظّف الموروث التّاريخيّ  والرّمز، والخيال بشكل ملحوظ و بارز، وذلك ما أجمع عليه النّقاد الّذين تناولوا هذا العمل في بداية توهّجه ، حيث إنّ المقاربات النّقديّة باختلاف أصحابها في مسالكهم المنهجيّة في تحليلهم لنصّ الرّواية لم يعطوه حقّه من جانب المغزى، والوظيفة،لأنّ الأديب عندما يتناول عملًا أدبيًا كهذا مليئا بالزّخم التّاريخيَ، والحضاريّ، والّذي قد حوّل فيه كلمات قد سطّرت على ألواح، أو أخفيت بين طيّات اللّفائف الدّفينة إلى عمل دراميّ قائم بذاته من شخوص و مكان و زمان و حبكة، بالتّأكيد هو يرمي بصنّارته إلى ما وراء هذه الحضارة، و إلى ما خلف هذه السّطور . بابل العراقيّة ومن منّا لم يقرأ أو حتّى يسمع بإحدى أكبر الحضارات المرموقة ذات الامتداد الطّويل و الحكم الفريد من نوعه المتمثّل بنبوخذ نصر رمز القوّة، والعظمة في الحضارة البابليّة، فعدا عن قراءتنا للتّاريخ عبر هذه الرّواية، فنحن نعيد أمجاد بابل و الكنعانيين أثناء قراءتنا لرواية بنسمايا ، بدلا من قراءة التّاريخ العقيم الّذي يعرض لنا أرقاما وأسماءً دون إطلاق العنان للعقل لعيش تلك الحقبة أو تلك الحضارة كما فعل القرنة، فقد جعلنا نعيش الحضارة البابلية في كلّ تفاصيلها و قد شُغفنا بها حبَا عندما وجدناها تجسّد لنا مواقفا كنّا قد سمعنا عنها دون أن نتخيّلها، من انتصارات و انهزامات، كانت حبيسة كتب التّاريخ و الأطالس.

رغم وجود الخيال في الرّواية إلّا أنّها تجسّد القوّة والجبروت الّذي كانت عليه الحضارة البابليّة وسط جموع من البلاد كانت هي ألماستهم، نرى اليهود المستضعفين والّذين قد غلبوا على أمرهم في عيشتهم الذّليلة بين البابليين، حيث كانوا مهانين من أهل بابل، نساؤهم تستبدّ و رجالهم لا سلطة لهم في شيء من أمرهم.

 إذا وجه المفارقة واضح في الرّواية وما نحن عليه الآن …نرى اليهود قد طغوا في الأرض و مشوا فيها مرحا ، و أنّ الحضارات الّتي كانت تتمتّع بالقوّة و الجبروت قد انهارت و سلبت حقّ التّمتّع بالسّلطة.

إذا الزّمن عجلة والتّاريخ يعيد نفسه… هل للتّاريخ أن يعيد نفسه؟ و نسترجع أمجادا كنّا قد حقّقناها ؟

نبوخذ نصر ليس فقط شخصيّة تاريخّية مهمّة فحسب ، بل هو رمز للقوّة و العظمة، كان همّه الأوّل والأخير أن يقيم بلادًا قويّة منيعة، بعيدا عن ملهيات الحياة ومغرياتها، بما قد يتمتع به ملكًا عتيدًا مثله، فهنا نبوخذ نصر بشخصيته هو رمز.

القرنة جعلنا نتخّذ مبدأ المفارقة دون أن نحسّ على ذواتنا، فشتّان بين ما تقرأه من قوّة للحضارة البابليّة آنذاك، وما كان عليه اليهود من انكسار وخوف، و بين ما هو على أرض الواقع الأليم حاليّا، لقد انقلبت الآية رأسًا على عقب، المفارقة مضحكة مبكية، نقرأ و نتساءل أكنّا بهذه القوّة المنيعة يومًا أمام اليهود؟  أكنّا أصحاب نفوذ و سلطة؟

ذلك ما ولّده لدينا واقعنا الأليم الكليم، إذا فالنّصّ الذي بين يدينا غير أنّه خدم التّاريخ من حيث تجسيده له وحياكته على شكل قصّة كاملة متكاملة الأركان، إلّا أنّه يخدم قضايانا الّتي نعيش، منها ما نحن نعاني منه من انكسار واضطهاد من حضارات و شعوب لم تكن موجودة ولم يكن يحسب لها حسابا.

يؤمَلنا الرّوائيّ على أن نعيد أمجادنا ولو تخيّلًا، أن نعيش حضارة نتمنّى أن نعيشها الآن، حضارة كانت قد بنيت بالقوّة والنّهضة، وقد هدمت بالوهن والضّعف والتّخلّي عن المبدأ.

فالنّاقد الفذّ يدخل للنّصّ من بابين: باب المعنى الصّريح في ظاهره، والّذي يكون واضحا له وللقارئ العاديّ ويكون غالبا متعارفا و متّفقا عليه من قبل النّقّاد والقرّاء.

 وباب المعنى المبطّن الّذي يحمل في طيّاته ترميزًا يخدم النّصّ لا ينتبه إليه القارئ العاديّ و لا يغفله النّاقد المتمكّن، الّذي يبحث دائما ما وراء الظّاهر؛ ليستنبط المعاني المخمليّة، والّتي تكون محطّ اختلاف في آراء النّقاد بين مؤيّد و معارض، وبين من يجد فيه معنى ترميزيّا وآخر لا يجد، هذا من  ميّزات النّصّ المحنّك و الغنيّ، أن يكثر الحديث حوله وحول مراميه الأدبيّة على مختلف الميادين، ممَا يجعل النّصّ أكثر شغفا  وأكثر عمقًا.

فقد انهالت دراسات نقديّة من مختلف الشّخصيّات على صعيد الوطن العربيّ، في شتّى الموضوعات حول رواية بنسمايا، والّتي ركّزت في مجملها على المضمون للرّواية، وعلى استخدام الرّوائيّ القرنة للموروث التّاريخيَ، ويوجد جانب لابدّ للتّنويه له وهو الجانب الوظيفيّ للرّواية، فلنترك المغزى للنّقاد ومن هم أهل له، ونأتي للجانب الوظيفيّ للرواية، والّتي من الممكن أن تكون داعمًا و رافدًا لكتب التّاريخ المعقّدة،  والتي ما يلبث القارئ أو الدّارس بقراءة الصّفحة الأولى حتّى يشعر بمللٍ، وكلل مفرطين نتيجة الجمود والجفاف في توصيل المعلومة، أين دارسي التّاريخ ومعلّميه عن هذا الإبداع؟

أن تجعل تاريخًا رواية يملؤها الشّغف و الخيال ذلك الجانب بحدّ ذاته يستحقّ الوقوف مليًا عنده، وأن نجعله منهجا في التّعرَف على تاريخ الأمم والحضارات بطريقة أكثر رحابة و إمتاعا من سردٍ ينقصه الحيويّة التّي نجدها في رواية بنسمايا مثلا.

ففكرة الرّواية لاقت صدى كبيرا عند القرّاء فطريقة الطّرح والأداء، واختيار الشّخصيّات والأسماء، حيث إنّه جعل كلّ  الأدوات تخضع لهذا الموروث، قسّم روايته لألواح بما يتناسب وطبيعة العيش في تلك الحقبة، فكانت الرّواية تدخلنا إلى عالمها بكلّ ما أوتيت من معطيات، طريقة السّرد، الأسماء، الأماكن، الحبكة، انتقاء الكلمات، الحوار، حتّى الخيال طوّع ليخدم ما جاءت به الرّواية ، فحريّا لها أن تقرأ في حصص التّاريخ و محاضرات الحضارات ليستشعر المتلقّي التّاريخ الّذي لا يسمع منه سوى صدى ضعيف المدى.

وعلاقة التّاريخ بالسّياحة علاقة وطيدة، بل قويّة جدّا ، فنرى السّائح الأجنبيّ ونظيره العربيّ، عندما يزور بلادا غير بلاده، أوّل ما يسأل عنه هو تاريخ هذه المنطقة، والحضارات الّتي أُقيمت على أرضها كون التّاريخ هو جزء لا يتجزّأ منّا، فهو هُويّتنا الّتي تعترف بنا كأصحاب أرض وأصحاب سلطة، فمن الجميل أن يجد الحضارة على هيئة رواية أو قصّة تقصّ عليه أو تعطى له كهديّة يأخذها معه إلى بلاده، فبذلك  نكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد أوّلا من النّاحية السّياحيّة وثانيا من النّاحية الثّقافيّة، نكون قد عرّفنا هذا السّائح على ثقافتنا وعلى مثقّفينا .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى