الذكورة المغتالة وغياب الضمير في رواية ” قصر الطرابيش ” لـ ” مطيع سراي الدين “

وليدة محمد عنتابي | أديبة وناقدة من سوريا

تستحوذ الرواية بأسلوبها السردي المشغول بإتقان يشي بتمكن الكاتب من أدواته وأهمها اللغة وامتلاك ناصية السرد المنساب بروية وتلقائية محببة تأخذ باهتمام القارئ  إلى متابعة أحداث الرواية دفعة واحدة .

الرواية صادرة عن دار بعل  في دمشق 2019 في 111صفحة ضمن غلاف يثير فضول القارئ لاستطلاع مضمونها والوصول إلى مكنونها وتجري أحداث الرواية في منطقة ما من سورية دون تحديد لتترك فسحة للقارئ في استنتاج  مسرح أحداثها من خلال العادات والتقاليد والملابس واللهجة المحكية على ندرتها.


في فترة نهايات الاحتلال العثماني؛ حيث يبرز السارد متمثلا بشاب في مقتبل العمر يرحل عن قريته باتجاه إحدى المدن للعمل فيها.

وحين يصل إلى مضافة أحد الوجهاء من معارف والديه يستطيع الحصول على عمل مناسب له، ومن خلال  استطلاعه العام لهذه المدينة يثير فضوله ذلك القصر المسمى بقصر الطرابيش ، فيسعى إلى استكشاف مجاهيله والتعرف إلى خباياه ،  عن طريق شخص من الجوار مطلع على ذلك القصر عارف بسكانه ومجريات أحداثه .
مما يلفت نظر السارد إلى شخصية غريبة لرجل يرتدي ثيابا رثة قذرة يتحرش به صبية الحي ويرشقونه بالحجارة بينما هو يحاول دفعهم عنه برفق ولين، هذا المشهد المتكرر أثار فضول السارد فألح  على صديقه الذي عرفه على القصر أن يحدثه عن هذه الشخصية التي ينادونها باسم هادي.
هادي ذلك الطفل اليتيم الوافد مع والده الباحث عن عمل،  بعد فقد والدته، يودع أمانة عند البيك صاحب القصر الذي سرعان ما تتخذه زوجة البيك ولدا لها فينشأ مع ابنتيها كأخ لهما بعد أن يستشهد والده في إحدى المعارك مع المحتل .
يكبر هادي مع البنتين كأخ لهما ، غير أن موت زوجة البيك والفراغ الذي تركته جعل الأب صاحب القصر تراوده الوساوس، إذ كيف يترك هذا الغريب مع ابنتيه في مكان واحد وقد تغيرت الظروف  وأصبح الولد والبنتان في سن المراهقة الحرجة.
فيعمد إلى فصل هادي  عن ابنتيه ويجعله يعمل في الزريبة مجمعا لروث الحيوانات مقيما في الحظيرة بعد أن كان يعتبر فردا من أفراد العائلة المالكة.
لكن الأمور بقيت توحي بالشك والتوجس فيشير عليه الخولي بالقيام بإخصائه تجنبا لما قد يحدث وخوفا على بناته.
يعمد هذا الخولي الفاقد للشفقة والحس الإنساني بالإيعاز إلى البيطار للقيام بعملية خصي لهادي  حيث يقوم بها هذا الأخير مكرها وكارها، هادي هذا الوجه البريء الذي اغتيل في رجولته وذكورته وحريته بل في إنسانيته برمتها ؛ وقد استلب لبابها بمنتهى الظلم والقسوة وانعدام الضمير .
مما يثير حفيظة القارئ ضد هذا الإجراء الوحشي والخالي من الرحمة، الذي يجسد الشر والظلم في مجتمع جاهل متعجرف غبي؛ في أفظع تجلياته .

تتوارد صور الشخصيات على شاشة التخييل  باختلافاتها ومساراتها، يحكمها ناموس طبقي مجحف.
أي عدل ذلك الذي يصنف البشر إلى طبقات: البيك والأجير ، السيد والعبد،  الغني والفقير .
ومن أعطى الحق  لذلك القوي أن يتحكم بالضعيف؟ إنه الظلم والاستبداد  وشرع الغاب  في أقسى تجلياته.
  وفق الكاتب في روايته من حيث تسلسل أحداثها في سياق درامي محبوك بعناية مما أعطى الحدث حيوية وهذا يحسب له بالإضافة إلى تمكن الكاتب من لغته وامتلاكه لناصية السرد الروائي .
ما يؤخذ على الرواية أنه كان بإمكان الكاتب  أن يتوسع في مشاهد مقاومة الاحتلال لا أن يمر عليها مرورا عابرا ، وذلك بإدخال مشاهد حقيقية موثقة جرت في تلك الفترة ؛  مما يكسب الرواية فضاء أكبر بانفتاحها على آفاق وطنية وإنسانية وتاريخية مما يخرجها من معطف القصة إلى فضاء الرواية الشاملة لكل أبعادها الاجتماعية والإنسانية والتاريخية.
استطاعت الرواية بالرغم من ذلك أن تلامس البعد الإنساني في أعماق القارئ وتستثير رفضه لكل ما يستلبه ويحد من حريته وكرامته .

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى