ماذا بقي من الثقافة والمثقف؟
د. الغزيوي بوعلي | الرباط
يتأطر هذا العنوان ضمن المجال الإشكالي، لحقل المعرفة والفكر بوصفها ممارسة إنسانية تعمل على تدبير الشأن الذاتي وتجعله خاضعا لقوانين شرعية وأخلاقية، ومن بين مفاهيم هذا الحقل نجد مفهوم الثقافة لأنها إشكال الذي تطرحه المرحلة كعلاقة بين من يقرأ ومن لا يقرأ، إذ نأكد على أهمية القانون الوضعي للثقافة بالنسبة للأفراد والجماعات ودورها في رفع الجهل وتحقيق العدالة الإنسانية التي تتأسس على معرفة القانون والسياسة وليس على الأهواء والاستهلاك، فكيف هناك مثقفون؟ وماذا بقي من الثقافة؟
يؤكد العنوان أطروحة مركزية مفادها أن الثقافة هي كلما خلفه الإنسان من عادات وتقاليد وسلوك وأخلاق وغيرها: فهي ضرورة للتنمية وغاية في ذاتها من أجل ذاتها، لأن القارئ المثقف إذا أراد أن يكون عادلا مع ذاته ومع الغير عليه أن يلتجأ إلى الثقافة، لطلب العلم من أجل الخروج من هذا الجهل المقدس، فلا يمكن تركه ينتقم من ذاته أو أن كل محل الجهل بل لابد أن نوفر له مجموعة من الشروط التي تمكنه من الانخراط في هذا السلك الثقافي بكل آلياته، حتى تكمن هذه الشروط في بعدها المادي والذاتي والفكري، حيث عبرها يجسد ذاته وتحقق عدله وحريته. إذ لا يوجد حق ثقافي خارج الذات والدولة فهذه العدالة الثقافية تستمد قوتها الإلزامية من المكتبات ودور الشباب من أجل حماية الأفراد والجماعات من الظلم الاجتماعي. لأن بالثقافة نبني الإنسان ونبني المجتمع، فإذا كانت الثقافة هي ضرورة واقعية والفكرة للبحث عن الشرعية الذاتية، فهي التي تجعل الإنسان المثقف …….
فكل شيء هو الذي يصوغ القوانين والأعراف وتحاور الماضي والمضارع ويربط بين الواقع والأفكار النظرية، فالحوار الثقافي يستمد الإنسان ولا يركن إلى اليقين، لأنها الأطروحة التي تستنطق الواقع وتفضح أيديولوجية وتعري هيمنته، لأن العالم الذي نعيشه يدعونا إلى الانخراط فيه بكل لغاته وتجاريبه التي تقودنا إلى السعادة والرغبة والمتعة الإنسانية. فالتأكيد على الثقافة سواء الورقية أو الإلكترونية هي معارف إنسانية مرتبطة بالمعارف العلمية والنظرية والإيبستيمولوجية، لأن الثقافة هي التجريب والتفسير والتأويل وبوصفها أيضا مقياس للمجتمع وللفرد.
تعتبر إذن الثقافة مفهوما مركزيا بالنسبة لكل تفكير إبداعي لأن الموقف من الثقافة ومن كيفيات اللجوء إليها هي التي تجدد قيمة المثقف ودوره في المجتمع لأنه الملازم والديمقراطي الذي يبسر بالتطهير تاريخ البشر. فهي آلية من الآليات عند الإنسان ومكون من المكونات التي تسهم لنا بالتخلص من التخلف والجهل والأمية. فعن طريقها يتأسس الدستور والقانون، وتعيش الجماعة والأفراد في سلام دون نزعات عدوانية، إن الثقافة إذن هي ضمن الوسائل المعنوية والرمزية، تسمح لنا بخلق شروط التواصل والحوار مع الآخر دون التعصب ولا الإقصاء.
إذن لماذا لا نعطي أهمية للثقافة. لأن هذه الإشكالية رغم تجدرها في المجتمعات الإنسانية، فلازلنا نعتبرها شيئا تافها وتخصص غير نفعي، فالثقافة هي التي تدفع الإنسان لكي يعي كينونته ووجوده في هذا العالم، ففي طريقها نبني الإنسان القادر على التفسير والتغيير لا أن نجعله مستهلكا أو مقلدا أو تابعا للقطيع كما يرى نيتشه.
إن الفعل الثقافي هو ممارسة تركيبية ونقدية تجعلنا نعيد النظر فيما نحن فيه، لأن الكثير من السياسيين لا يعيرون الاهتمام لثقافة، لأن همهم الوحيد هو الولوج إلى المناصب والكراسي، فتبقى الثقافة هامشية لا يعيرها أي اهتمام. فهذا التناقض بين ما هو سائد فوقي، وما هو اجتماعي طبقي، نرى أن الثقافة تحتل مكانا غير المكان الذي ينبغي أن نجد فيه المثقف لذا انزاح هذا المثقف عن النضال الثقافي واستسلم للخمول أو للبحث في مواضيع غير المواضيع الاجتماعية ولا السياسية ولا الفكرية. وهذه النزعة الانهزامية والهروبية هي التي جعلت السياسي والوصولي لكي يتسلق مراتب السلطة العليا، هكذا تبقى الثقافة والمثقف أسير الماضي دون الحاضر، حيث أن المثقف ظل يلوك أطياف ذكريات الستينيات والتسعينيات دون أن يكسر هذه البنية المتخلقة لكي ينخرط بوعي نقدي من أجل بناء مجتمع ممكن لا مجتمع كائن، هكذا تتوالى الثقافة وتتعدد المذاهب وتنتشر العقائد الوضعية لأن الثقافة تنتقل من تيار إلى تيار، دون أن نعرف ماهيتها ولا دورها، فهمها هي التطريب والغوغاء هذا ما نراه في عالمنا العربي وخاصة في البلدان التي تعرف اشتقاقات سياسية كليبيا وسوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول.
إذن أين الثقافة وأين المثقف. لقد ظل هذا الأخير يبكي وحيدا أمام طوفان المفاهيم والمصطلحات ولم يعد قادرا على استيعابها. بل أصبح ينخرط في تيارات لا يعرف كنهها، لأن همه هو إظهار البراعة الفكرية والإبداعية دون معرفة من المتحكم في دواليب هذا التيار. إذن يجب علينا أن نعيد لهذه الثقافة حريتها وممارستها الالتزامية والمأساوية اتجاه الذات والعالم، لأن عالم الثقافة هو عالم التجلي والظهور للحرية الذاتية والقيم بالواجب الحقيقي اتجاه الغير. إنها ممارسة إبداعية التي تتطلب منا إرادة مستقلة ومشرعة للأوامر الأخلاقية والقوانين الإنسانية والواجبات الكلية. نستنتج من هذا المقال، أن ما بقي من الثقافة ليس قادرا على بلورة المفاهيم كالفن والفلسفة والفكر لكي نكون منافسينا وحاضرينا بجانب الدول المتقدمة صناعيا وثقافيا ويبقى الإشكال هنا نظريا وتطبيقيا، لأن التفكير في هذه الإشكالات علينا أن نستحضر الرهانات المعاصرة كنظرية وكتجريبية وخصوصا ونحن نعيش عصر العولمة والثورة العلمية. إذن لابد أن تنخرط في القيم الكونية حيث يكون الإنسان وكرامته هي الأسمى والعليا، وأن لا نبقى أسيرة المختبرات، علينا أن نكون اختلافيين لكي نسعى إلى بناء الرغبات بشكل عقلاني وأن نصفي الذات من الانفعالات والأهواء ومن النزعات الشيطانية من أجل تأسيس موقع داخل الثقافة المعاصرة، واتخاذ موقف من السياسي، والأصولي، ومن المثل العليا نحو موضوعات التي تمنح للأنا المثقفة ممرات نحو الجمال والإبداع كما يقول بول ريكور في كتابه التحليل النفسي وتحولات الثقافة المعاصرة ص: 155 – 156 .
ومهما يكن من أمر لقد ذكرت كوثر حفيضي إحدى العالمات أن البيئة المغربية ليست سوية، لأن الثقافة لابد لها من الحرية، ومن تكوين لسياسة واضحة للجميع، لكي نؤسس البحث العلمي، فالمغرب إذن غير قادر على تأسيس مراكز علمية نووية، وكوسمولوجي مثل أركون، فهذه الصيحة هي إنذار ضد أصحاب الكراسي الذين يغلقون أبواب أمام الباحثين والفاعلين الجامعيين، فالأفق مسدود وسياسة البلاد غير معروفة فهي مشوشة رغم نداء الدولة تجمع الطلبة والباحثين قصد بناء الطاقة المتجددة ولكن رغم كل هذا فالإنسان غير قابل للاستبدال، لأنه يهدف إلى معرفة العالم الفيزيائي، والاجتماعي كما يؤكد ليوطار، والمهدي المنجرة في مقالاته الذي ينادي دوما في محاضراته بتشجيع البحوث الميدانية، والمختبرية، فهي القادرة على إخراجنا من التخلف والأمية من أجل الركب في عالم ما بعد الحداثة، إذن فمتى نعيد النظر في ذواتنا؟ وكيف نؤسس مختبرات فاعلة وقادرة على الإبداع لا أن تكون عبارة عن ارتزاق وخلق عناوين لا تستجيب لمتطلبات العصر ولا التنمية.