نعم نبض المكان وحرير الذكريات إلى روح الشاعر مطلق عبد الخالق

شوقية عروق منصور | فلسطين

 أ – انتقلنا من بيتنا الكائن في الحي الشرقي في مدينة الناصرة، إلى بيت جديد في حي الميدان مقابل سينما ديانا.. ” البيت أموال متروكة تابع لدائرة أراضي إسرائيل ” هكذا كانوا يقولون، رغم أن كلمة أموال ومتروكة تثير في النفس التساؤل والحيرة، لماذا هذه الأموال تُركت؟ ومن هم أصحابها الذين تركوها؟ وضاعت الإجابة بين مسامير السنوات التي تدق في سقف قضية ما زالت تقرأ لغة الامل في سماء التاريخ.

 البيت يقع في أعلى الطريق الضيقة المحاطة بالصخور، سائق السيارة الذي ينقل الأثاث منعنا أنا وأخوتي من ركوب السيارة، يكفي حمل الأثاث، لذلك أخذنا نركض في شوارع المدينة حتى نصل إلى البيت الجديد قبل السائق المتعجرف، ولكن ما أن وصلنا حتى وجدنا السائق قد وصل قبلنا، وأبي يتجادل معه.. الصوت يعلو وأمي تحاول إقناع السائق بأن يتكلم بصوت منخفض حتى لا يثير استغراب أهل الحارة الذين سيقولون عنا – من أول غزواته صياح وصوت عال – وتبين أن السائق لا يريد أن يصعد بالسيارة إلى فوق والوقوف في ساحة البيت وينزل الأثاث، بل يريد أن ينزل الأثاث تحت في أول الطريق وعلينا نحن حمله للأعلى، وبعد ساعة من الأخذ والرد انتهت الأزمة بصعود السيارة وتنزيل الأثاث وغلاية قهوة مع الفناجين على صينية من النحاس جاءت بها إحدى الجارات ترحيباً بالجيران الجدد وللسائق الذي تبدد غضبه عندما ناوله والدي ليرة زيادة عن المبلغ الذي طلبه، فكانت الابتسامة وقوله وهو يصعد إلى السيارة – إنشاء الله تشوفوا الخير في البيت الجديد . –

 

-ب – بسرعة البرق كان الأقارب حولنا.. أمي تلف وتدور بين الغرف، تفتح جدتي باب الغرفة الكبيرة وتقول هذه غرفة المختار!! لم أفهم معنى كلمة “المختار” ولم أفهم لماذا أمي صمتت وأخذت جدتي تبكي وتنظر إلى شيء بعيد، تحاول التشبث بصورة هاربة.!! لكن شعرت أن سحابة عابرة غطت سماء الغرفة وسحبت شيئاً من الأعماق وتركت وراءها فراغاً مشحوناً بالدموع، وضجيجاً في الروح وصراخاً صامتاً، وعرفت بعد ذلك أن المختار هو خال جدتي والبيت كان ملكه، والغرفة التي كانت تستقبل الشخصيات، ينطلق منها نفوذه وقوته تحولت إلى غرفة ينام فيها الصغار، سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال.. بعد نكسة 67 بدأت زيارات الأقارب المتلهفة، بعين الطفولة كنت أراقب الزيارات والولائم والأسماء التي كنت أعرفها عبر الشهقات والتنهدات والدموع والصور المعلقة على الجدران، ها هي تتحول أمامي إلى لحم ودم واحتضان وابتسامات وضحكات يتخللها الدموع وشتم الظروف واليهود، كانت المسافات تلغى وتمسح السنوات حين يتجمعون ويسردون الحكايات ويفتحون خزائن الذكريات وجروح اللجوء العميقة.

 

–  ت – كنا نلعب أنا وأخوتي داخل البيت.. جاءت أمي وطردتنا إلى الخارج.. منظر النسوة اللواتي دخلن البيت وهن يبكين ويلطمن يثير حزني ويوقظ  حواسي .. تسللت إلى داخل البيت حتى أعرف سر النسوة اللواتي دخلن البيت وهن يبكين ويقبلن الجدران ويتأملنها بحسرة بعد أن وجدن عليها خربشات ورسومات.. نظرات أمي تهددني بالعقاب وتطلب مني الخروج.. لا أهتم.. وأمام عنادي الذي خرج من جحوره طلبت مني الوقوف بعيداً.. فوافقت.. رأيت امرأة كبيرة في السن متشحة بالسواد تهبط على الأرض وتقبل بلاط الغرفة وتتمرغ فوقه وتبكي بصوت عال، أمي تربت على كتف المرأة وتبكي أيضاً، ثم تمسك بيدها وتجلسها على الكرسي وتحاول مواساتها والاعتذار يلملم بقايا الحنان المخلوط بالألم.. أحد الرجال المرافقين للنسوة يطلب من أمي أن تسمح له أن يصعد على “السدة”، صعد ونزل وهو يحمل رزمة كتب كبيرة مربوطة بخيط من – المصيص – لقد أبقت أمي الرزمة سنوات طويلة وكانت تقول لعل أصحاب البيت يطلبون الرزمة في يوم ما، وفعلاً جاء هذا اليوم . شكر الرجل أمي على محافظتها على الرزمة، أمي طلبت منه على استيحاء أن يعطيها كتاباً كذكرى، فتناول الرجل كتاباً وكتب عليه كلمات إهداء لنا فيها نبضات الشكر الدافيء الكتاب لونه أزرق على غلافه لوحة فنية مرسومة بتقنية عالية – أظنها إحدى اللوحات العالمية، ترمز إلى ملاك طائر، حالم، الصفحة الأولى تحمل صورة شاب يلبس النظارات.. وجهه له سمات خاصة ابرزها سمة الهدوء، وشكله يوحي بالأناقة والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، ومكتوب تحت الصورة (مطلق عبد الخالق ولد عام 1910 –وتوفي عام 1937م) . وكان كتاب “الرحيل” أول كتاب في مكتبتي.. أول كتاب وضعته على الرف وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري .

– ث-  عمري ينطلق وقطار المطالعة يجري بسرعة كبيرة، السكك الحديدية تخرج من أصابعي التي تمتد إلى رفوف الكتب وقد تحولت إلى أصابع ديناميت تفجر الكلمات، لتحولها إلى سهول أركض فيها بحرية وعشق مجنون للكلمة والحرف وأخوض الصفحات المجهولة، أقتحمها وأفك طلاسمها وعذريتها. قرأت ديوان “الرحيل” وصور النسوة اللواتي يبكين ويحاولن حجب دموعهن عنا، وصورة الرجل الذي صعد إلى “السدة” ونزوله وهو متأبط رزمة الكتب والدموع تترقرق من عينيه ما زالت تثير في نفسي الوجع .

سألت أمي بعد ذلك بسنوات عن النسوة اللواتي كن يبكين، فقالت  مسكينات قريبات الشاعر ” مطلق عبد الخالق “والشاب الذي صعد إلى “السدة” مطلق ابن شقيق الشاعر.. فقد أصر صبحي شقيق الشاعر على تسمية ابنه مطلق تيمناً بشقيقه، وأيضاً بعد وفاة أخيه جمع قصائده وأصدرها في ديوان حمل اسم ” الرحيل ” وقد قام بطباعته في بيروت عام 1938 و البيت الذي نسكن فيه هو بيت الشاعر الذي مات بحادثة القطار قبل النكبة، وقد تركت عائلته البيت عام 1948 على أمل العودة، ولكن الذي جرى لم يكن في الحسبان فقد أغلقت الحدود وعاشوا في الشتات لاجئين، لذلك لا تتعجبي من منظر النسوة وهن يبكين . وكانت رزمة الكتب المخبأة فوق ” السدة ” هي ديوانه والنسخ الوحيدة الباقية من عام 1938م، وقد حافظت عليها أمي ولم تفرط بها ، بل كانت تقوم بلفها حتى لا تتلوث عندما تضع تنك الزيت أو المؤن الأخرى . -ج- عام 1977 التقيت مع الشاعر ورئيس البلدية آنذاك توفيق زياد وطلبت منه تصليح الشارع المؤدي الى بيت الشاعر مطلق عبد الخالق واطلاق اسمه على الشارع .. ووعد بالتصليح .. ومرت سنوات وكنت كلما التقي به في مناسبة أذكره بوعده ومات توفيق زياد ومات الوعد . قبل عدة سنوات التقيت مع خطيبته (خطيبة مطلق) عجوز يحوم حولها احفادها وسألتها عن ذكرياتها مع مطلق… ضحكت.. بانت أسنانها الاصطناعية.. وقالت بحسرة.. أيام.. ولم تكمل.. أمي نبهتني الى خطورة خيالي الواسع عندما قالت لي : في تلك السنوات هل كانت العروس تعرف خطيبها ، قد تكون رأته مرة أو مرتين . جلست مع شقيقته – أم أسعد – قبل وفاتها كانت تسكن في ذات الحارة وقد حدثتني عن شقيقها ” مطلق ” مع أن الذكريات يحيطها ضباب وخيالات وآبار قديمة مغلقة، التسلل اليها نوع من اثارة الحزن الرابض، إلا أنها تذكر شقيقها وهو منكب على الكتاب .. هادىء.. صوته منخفض .. علاقاتها به علاقة أخ يناقش ويحاور ويكتب ويستقبل الاصدقاء ومعارفه المهمين في المجتمع، يكتب في الصحف المقالات والشعر والمستقبل مفتوح أمامه، ووالدها كان يصر على أن يتعلم، وهي بنت صغيرة تنظر الى اخيها كعملاق وقوي يرفع الرأس لكن موته كسر ظهورنا، لقد قصف مثل الوردة، قالتها وتفجرت دمعة حبيسة من ينبوع قد ردم منذ زمن طويل . –

– ح-  تزوجنا وخرجنا من البيت الواحد تلو الآخر، هذه سنة الحياة.. وبقي البيت الذي ولد فيه يوما شاعر فلسطيني كبير يتغنى النقاد والقادة بشعره وباسمه، ولكن لا أحد يهتم ويحافظ ويقدر آثاره، فالطريق ما زال كما هو مليء بالمطبات والصعوبات والبيت يحاول النهوض ويقف بفضل الترميمات البسيطة لكن يعاني من التساقط من هنا وهناك، لا أحد يعرف من أهل مدينة الناصرة أن في تلك الحارة المخبئة في ظل العمارات العالية بيتاً كان يوماً مهداً لشاعر لم يحظ باهتمام ورعاية  .أحد أقارب الشاعر يطبق المثل الشعبي – ما بحك جلدك غير ظفرك – قام بجمع تراث مطلق عبد الخالق واصدر ديوان ” الرحيل ” بحلة جديدة، ويجمع كل شيء كتب عنه ، ويملك الكثير من البرامج الثقافية والادبية التي يريد بواسطتها ترسيخ قيمة هذا الشاعر الذي مات شاباً قبل أن يفرز عسله بعد ، نتساءل نحن أين مؤسساتنا الثقافية ؟؟ ان الشعب الذي لا يملك ذاكرة تحترم مبدعيه ورجاله ونسائه الذين قدموا له لا يستحق الحياة، فليس بالشعارات وحدها تحيا الشعوب وترتفع قيمتها .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى