مقام التيه.. قصة قصيرة

 

عمرو البطا | الجيزة – مصر

الحمد لله الواحد الأحد بوحدانية ذاته، المتجلي أينما نولِّي بعديد أسمائه وصفاته. والصلاة والسلام على بذرة الأكوان، وصاحب الفرقان، وخاتم لَبِنَات البنيان، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.

فقد وصلني كتابك الكريم بعد أيام وحدة وانعزال لم أخاطب فيها بشرا قط. وليست تلك عزلة رياضة ومجاهدة، وإنما أحوجني إليها سفاهة كل من التقيتهم في هذا السجن وعمى بصائرهم. إن تكلموا فغثاء لا طائل منه، وإن تكلمت فجدران السجن أوعى لكلامي وأفقه. ولما جاءني رسولك وطلب زيارتي فرحت واستبشرت، فلما قرأت كتابك غاضت روحي مرة أخرى، فما كنت أنتظر منك تلك الجفوة. كتابك مقتضب جاف العبارة، وقد عهدتك ليّن القول مسترسلا، وعادة الصديق مع صديقه اللين والاسترسال، فإنهما ينفّثان عن النفس، ويذهبان الوحشة، ويجلبان الودّ والمؤانسة، وأنا أحوج ما أكون إلى ذلك. لكنّ ما هوّن الأمر عليَّ، وما هو بالهيّن، أنك -وإن خلت عباراتك من الودّ- تودّ أن تستمع إليَّ قبل أن تحكم عليَّ، ولم تعذلني وتخض فيَّ كما عذل غيرك وخاض.

اعلم يا أخي الحبيب، أعاذك الله من ضيم الأحبة، ومن خوض طريق بغير دليل ولا صحبة، أنني لما خرجت إلى الأستاذ “أنطوان كلوت” وسلكت طريقه، لم يكن هو مقصدي ومبتغاي، وإنما لعلمي أن غايتي لديه وهو مجرد وسيلة. والله يعلم أنّي ما سرت إليه سير العين إلا لعلمي أنه بدٌّ لسير القلب، وما فعلت إلا ما أُمرتُ به فامتثلت.

منذ أن فتحت عيني على هذه الدنيا وليس لي غاية فيها سوى أمي، أتتبع خطاها أينما خطت، وأمشي في إثرها حيثما مشت.

وعندما قالت: “ابحث عن دواء أخيك لدى ذلك الفرنساوي” امتثلت ولزمته. كان في صدري ريبة منه منذ أن سمعت اسمه. وعندما اختاروني للانتظام بمدرسة الطب التي تولّى نظارتها، ما كنت لأوافق لولا أمر أمي.

أأترك مشايخي لأتتلمذ على يد إفرنجي نصراني؟ ولكنني انتظمت واجتهدت في الدرس، بل إنني أجدت لغته بعض الشيء. فلمّا تقرّبت إليه وجدت منه حسن الخلق والمعاملة. صرت من تلامذته المقربين، وسمح لى بزيارته في بيته في غير أوقات الدرس.

ورغم ذلك ظل في صدري شيء منه. حكيت له عن مرض أخي، ففحصه، وأبدى تعجبه واستغرابه، وظلّ يبحث في كتبه بلا طائل.

منذ عامين تقريبا أصيب أخي الأصغر بمرض عجيب يجعله يقيء دما أسود منتن الرائحة، ويصفرّ وجهه ويشحب، وفي الآونة الأخيرة بدأت تظهر في بعض المواضع من جسده بعض العروق السوداء أسفل الجلد، فإذا جُرح في تلك المواضع سال دم أسود منتن كقيئه.

عجز كل حكماء بلادنا أمام مرض أخي، حتى ذلك الفرنساوي احتار أيضا. قال إن دمه يتعفّن داخل عروقه، ويحتاج إلى تغيير الدم المتعفّن قبل أن يمتدّ إلى باقي الجسد، وتعجّب أن أخي لا زال على قيد الحياة، غير أنه وعدني بالبحث في أمره، وأنا لذلك الوعد مرتهن إذعانا لأمي.

وذات يوم عندما عدت في إجازة إلى البيت، أخبروني أن أمي قد توفيت ودفنت منذ أيام، فهمتُ على وجهي على غير هدى، ثم لازمت قبرها زمنا أبكي وأنوح، وظللت أسأل الله أن يقبضني إليها، حتى أدركت أن أجلي لم يحن بعد. وحاشا لله أن يكون حزني وبكائي سخطا على قضاء الله وكفرا به، وإنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون.

وبينا أنا جالس في القرافة، إذا بصوت شيخ يقرأ القرآن بالقرب مني. أصغيت إليه إلى أن وصل إلى قوله تعالى “من بعد وصية يوصى بها أو دين”. فقلت في نفسي: أجدر بي أن أسعى في وصية أمي، فهي أنفع من الحزن والنواح. فلملمت ثوبي، وودّعتُ أمي، وفارقتها وكأنّي أفارق روحي، فكنت كما قال القائل:

بقـــــبر أحبّتي يخضرُّ عـودي

ولــــو فــارقــتُه يـــومـا ذَبُلتُ

فدارُ الموت -مذ رحلوا-: حياةٌ

ودونـهمُ ديـارُ العــيش: مــوتُ

ثم انطلقت من فوري إلى الأستاذ. وما أن خرجت من الجبانة حتى شعرت بجفاف الريق، فعمدت إلى أول سبيل صادفني. ولما رفعت الغطاء، ونظرت في عين الزير وأنا أمدّ يدي بالكوز إليه، رأيت وجهي منعكسا على صفحة الماء تزيّنه لحيتي الكثة، فخجلت من نفسي وقلت: “والله لا يكون لي زينة بعد أمي”، وقصدت أقرب حلاق في الطريق وحلقت لحيتي، ثم استأنفت المسير.

وبينما أنا في الطريق، رأيت أمي بعين القلب جالسة على عرش من الإبريز منصوب بين السماء والأرض، وكانت تبتسم إليَّ في رضا. فانشرح صدري، واطمأنّ قلبي، وما لبثت أن رجعت إلى عالم الموجودات.

ولما أن وصلت، لم أذهب للإبلاغ بوصولي، ولم أتوجه إلى العنبر، وإنما توجهت من فوري إلى بيت الأستاذ لا ألوي على شيء. استأذنت في الدخول، فغاب خادمه برهة ثم عاد وقادني إلى الداخل. وبينما أنا جالس، إذا بالفتاة البيضاء ذات الشعر الأشقر والخدّ المورد تدخل عليَّ. رحّبت بي، فرددت عليها الترحيب بلغتها. تعلّق بصري رغما عني – والله يا أخي كان ذلك رغما عني- على موضع التقاء نهديها المطلّ من جيب ثوبها، فسرت في جسدي رعشة.

الغالب أن تلك الفتاة هي إحدى قريبات الأستاذ جاءت للزيارة منذ أسابيع مع نفر من أهلها، ومنذ أن رأيتها، وأنا في لخبطة الحال. صرت لأجلها شغوفا بالدرس أكثر من ذي قبل كي أتقرب من الأستاذ، وصرت أنتهز كل فرصة لزيارته في بيته بحجة سؤاله في أمر الدراسة أو أمر علة أخي، ثم أعود وأستغفر الله عما فعلت.

باتت تلك الفتاة رفيقة أحلامي الشيطانية كل ليلة. أقول لك هذا مفصحا عن إثم اقترفته، فسترنى الله، فكشفت لك ستره، لأنّ فائدة الإفصاح اليوم أدعى من فائدة الستر.

وما زاد الطين بلة تلك النظرات العاهرة التي تسترقها إلى محاشمي بين الحين والآخر، فتلقي في جوفي الجمر. لكنّها اليوم أطالت النظر إلى وجهي، ثم قالت بدهشة:

  • أَحَلَقتَ لحيتك؟
  • أجل. حلقتها حدادا على أمي.
  • رحمها الله. لكن أتدري أنك الآن أجمل بكثير!

قالتها بلكنة ذات مغزى، فاكتسى وجهي حمرة، وما لبث أن دخل الأستاذ، فرحّب بي، وواساني لوفاة أمي حتى كادت الدموع تنفلت من جفنيَّ، وكان بعض رفاقي قد أبلغوا بوفاتها لمّا تأخرت عن الحضور عقب انتهاء الإجازة، ثم بادرني قائلا:

  • تعال معي. ولكن اغتسل أولا وبدّل ثيابك.

وكنت قد أتيت إليه من الجبّانة رأسا بحالتي، دون أن أعي برأسي العاري، وثيابي المتسخة المتعرّقة من المبيت هناك، ودون أن أحضر حتى صرة الثياب من البيت.

فلما رآني على ذلك الحال أمر خادمه أن يحضر لي ثيابا نظيفة، ثم انصرف إلى غرفته متفكّرا مشغول البال، وانصرفت الفتاة في إثر الخادم. وبعد برهة عاد الخادم ومعه ثياب إفرنجية عجيبة. سألته مستنكرا فقال لي إن الفتاة أمرته ألا يعطيني غير تلك الثياب. فتعجبت من أمرها، واستحييت أن أطلب من الأستاذ ثيابا أخرى، فتأبطت الثياب، وتبعت الخادم إلى الحمام.

ولما أن فرغت من الاغتسال، ارتديت الثياب في صعوبة، ثم خرجت أتأبّط ثيابي المتسخة منكمشا على نفسي خجلا من ثيابي العجيبة. وما أن خرجت حتى ألفيت الفتاة واقفة قدامي. تقدّمت نحوي، وتفحّصتني بنظرات لاهبة، فازددت انكماشا. سألتها مرتبكا عن الأستاذ، فلم تجب. ظلت تتفحصني، ثم باغتتني واختطفت ثيابي القديمة، وألقتها أرضا قائلة:

  • اترك هذه الثياب الآن. شكلك أحلى بتلك الملابس، لا سيما وقد حلقت ذقنك.

داخلني العُجْب من مقالتها، وعقل لساني الحياء، فقالت لي:

  • لكنّ سروالك يحتاج أن يُعدّل.

وجثت من فورها على ركبتيها، فبدا صدرها أكثر عريا. وبينما كانت تعدّل سروالي إذا بها تتحسّسني وتعبث بي من الأمام، فبلغ اهتياجي ذروته، ولم أدرِ بنفسي إلا هابطا إليها ضاغطا على ضلوعها بقوة، فصارت تتأوّه وتغنج.

مددت يدي باحثا عن تكة لباسها، وبينما أنا كذلك خُيِّل إليَّ أنني سمعت صوتا من ناحية غرفة الأستاذ، ففزعت، وانتفضت، وتركتها، وكان أهون عليَّ ترك روحي ولا أتركها. ثم انطلقت ناحية الغرفة، بينما كانت ضحكتها الرقيعة الساخرة تجلجل من خلفي.

هذا ما كان من أمري وأمرها وكل ما جرى بيننا لا أكثر ولا أقل، وليس هذا -والله- ضربا من الجنون كما يدعون. فافهم ذلك.

ولجت إلى غرفة الأستاذ فوجدته منهمكا في أدواته. كان الأستاذ مشغول البال اليوم حتى أنه لم يلق بالا بثيابي العجيبة ولحيتي الحليقة، أو هكذا بدا لي.

أشار إليَّ بالجلوس دون أن يحوّل بصره، فجلست. بعد فترة هدأت وزال اضطرابي مما حدث، فصرت أجيل ناظريَّ في أرجاء الغرفة حتى وقع بصري على شيء مغطّى بملاءة بيضاء على طاولة التشريح في الركن، فعلمت أنها جثة.

بعد أن فرغ مما كان يفعل، التفت إليَّ قائلا:

  • أبشر. يبدو أنني بدأت أتقدّم في معرفة علّة أخيك.

ففرحت واستبشرت، فأشار إلى الجثمان في ركن الغرفة قائلا:

  • لقد عثرت على جثمان ميت مصاب بمرض أخيك ذاته.

جفلت لدى سماعي ذلك ولا أدري السبب. ثم اصطحبني إلى الجثمان، فوقفنا قُدّامه، ونزع الأستاذ الملاءة عن الجسد، فاضطربت ودارت بي الأرض كأني أرى جثة للمرة الأولى، فتعجّبت من أمري وتماسكت. نظرت إلى الجسد المسجى، وصحت ذاهلا:

  • إنها امرأة!

فأومأ الرجل بعدم اكتراث. كان غريبا عليَّ أن يطّلع رجل أجنبي على جسد امرأة عارية، ولما أيقنت من سمرة جلدها وخشونته أنها من أهل مصر، غِرْتُ عليها من ذلك الفرنساوي.

غير أنني قلت لنفسي إنه وإن كان للأموات حرمة، إلا أنها الوسيلة الوحيدة لإيجاد الدواء، والضرورات تبيح المحظورات، فهذا ما وطدت نفسي عليه قبل الإقبال على التشريح أول الأمر، بعد أن لبثت زمنا في حيرة من أمري خوفا من الوقوع في إثم انتهاك حرمة الموتى كما حذرني كثير من مشايخي. وما جعلني أتقبل الأمر أكثر أن الرجل قد أبقى وجه المرأة مغطى سترا لها.

تركني الأستاذ ليحضر بعض أدواته، فبدأت أتفحّص الجسد المُمَدّد. شحوب الموت يغشى سمرة الجلد الذى كوته الشمس والفقر. أظنّ أن شحوبها وهي حية لا يختلف كثيرا عن شحوبها بعد الموت. ثم أبصرت بقايا العروق السوداء الذابلة المتناثرة على أنحاء جسدها النحيف، وثدييها المترهلين المقزّزين.

قلت في نفسي: فارق عظيم بين ذلك القدّ الفرنساوي البضّ الذي ضممته منذ قليل، وبين ذلك الجسد البائس المسجى أمامي، والذي لا يختلف كثيرا عن أجساد باقي النساء في بلادنا. كانت تلك أول مرة أرى جسد امرأة عاريا، فحدّثتني نفسي أن أنظر إلى عورتها، بيد أنني زجرت ذلك الشيطان الرابض في صدري.

لبثت في زجر نفسي ومقاومتها حتى عاد الأستاذ ببعض الأدوات. بدأ يشقّ جسد المرأة من أسفل الذقن إلى أسفل البطن، فتقزّزت. أخذ يوسّع ذلك الشق، ثم شرع يقصّ ضلوعها، فلمّا سمعت طقطقة الضلوع تصك أذني، وقعت مغشيا عليَّ.

ولمّا أفقت، تعجّبت من أمري. فمنذ انتظمت في دروس التشريح لم يهز مرأى الموتى وتشريحهم فيَّ شيئا، فما الذى بدّل حالي اليوم وغيّره؟ كان الرجل يجلس بجواري عندما أفقت، فاعتذرت له بوفاة أمي، فتفهّم ذلك، وأصررت على العودة إلى حيث كنا رغم إلحاح الرجل عليَّ أن أستريح. وقفت إلى جواره، وصار الرجل يكمل تشريحه، وصرت أنا أردّد بعض الأوراد والآيات القرآنية لعلها تزيل لخبطة حالي.

ولمّا أن فرغ راح يشير إلى أعضاء الجسد، ويسألني عنها وعن وظائفها، فكنت أجيبه بقدر ما تعلّمت، وكان هو يستطرد في شرح ما غمض لديَّ أو ما لم أحصّله بعد في الدرس. لم أفهم كثيرا مما قال لعدم إحاطتي بمعاني بعض ألفاظه لا سيما اللاطينية منها، فآليت على نفسي أن أجيد لغته لأفضله في العلم. وبعد أن فرغنا نظر إليَّ قائلا:

  • فقط هذا هو الإنسان!

نظرت إلى الجسد المسجى وتعجّبت من مقالة الرجل. أهذا هو الإنسان فقط ولا شيء غير ذلك! لكنني آثرت الصمت. شرع الرجل في تفحّص مواضع العروق السوداء، أما أنا فقد ضاقت نفسي مما يحيط بي. نظرت إلى أعلى أستجدي إذنا بالعروج خارج الحدود. نفرت عيناي من إبصار الموجودات، وملت الذات من ملازمة الذات، فهفت روحي للذوبان، واشتقت لما لا يُنعت باللفظ ولا يُدرَك بالأذهان. وأنشدت بلسان القلب قائلا:

أرى  الكون،  لكنني لا أرى

فأغمضتُ عينيَّ حتى أرى!

وما أن فرغت حتى رأيت طاقة من النور قد انفتحت، فرُحتُ أرتقي حتى صرت قاب قوسين أو أدنى. وقع في قلبي أن أرفع الغطاء عن وجه الجثمان قبل أن ألج إلى حضرة أمي في عالم الحقائق والمثال، لأشكو لها حالي، وأطفئ شوقي، وأخبرها بما فعلت لأجل خاطرها، وهي أعلم به.

فلمّا رفعت الغطاء تلاشت طاقة النور. نظرت إلى وجه المرأة فألفيته وجه أمي الشريف! والله يا أخي كان وجه أمي بلا ريب كوضح النهار. نظرت إلى عورتها.. ألأمي عورة كباقي النساء؟ حدّقت في الأستاذ فإذا به يرمقني بنظرة باهتة مشوبة بابتسامة خبيثة كأنه يعرف كل شيء. رددت بصري تارة أخرى إلى وجه أمي الميت الشاحب، فساخت روحي، وانخلع قلبي، وسقطتُ مغشيا عليَّ في ساعتي.

ΠΠΠ

أكانت أمي مريضة بذلك المرض اللعين؟ متى مرضت إذن؟ وهل انتقلت العدوى منها إلى أخي أم من أخي إليها؟ الآن فهمت لمَ شَحُبَ وجهها واصفرّ، ولمَ كانت تخفي عنا جسدها لئلا نرى مواضع العروق السوداء منه. كنت أوقن أنها تخفي أمرا ما عنا. لقد عانت آلامها وحيدة دون أن يدري بها أحد. كبدي عليك يا أمي!

لكن كيف استحصل ذلك الفرنساوي اللعين على جثمانها الطاهر؟ وهل تراها راضية عليَّ أم ساخطة؟ إن كانت راضية، فلماذا تلاشت طاقة النور إذن؟ ثم هل أستأنف إعمال وصيتها بعدما علمتُ ما علمتُ؟ إنه جثمانها الطاهر! أحقا هو جثمانها أم هُيّئ لي ذلك؟ وهل أتوه عن وجه أمي!.. آه لقد بدأت أشكّ في نفسي. شرعت في تأمّل كلماتها لعلي أجد فيها ما يقيلني من حيرتي، فلم أظفر بشيء. فتحتُ قلبي لتلقّي الإشارات، فلم تَبِنْ إشارة، ولم تَلُحْ إيماءة. إن كنتِ ساخطة عليَّ يا أمي، فبأي ذنب تأخذينني؟ وإن كنتِ راضية فلماذا تتركينني في عالم الفناء وحيدا بغير هادٍ ولا معين؟

ΠΠΠ

مرّت عليَّ جمعة وأنا على تلك الحال بين النوم واليقظة. أُلْقِيتُ في صحراء التيه منبوذا لا مساس، ومن يومها وأنا في ذلك المقام لا أبارحه.

ولمّا أفقت تلفّت حولي، فوجدتني راقدا على أحد الأسرّة بالمستشفى. مكثت ساعة أتفكّر في أمري حتى التمعت في ذهني واستحوذت عليَّ تلك الخاطرة، فأسررتُها في نفسي ولم أُبدِها لهم، وطلبت العودة إلى العنبر مع رفاقي والانتظام في الدرس، فأجابوني بالرفض أولا، ثم أذعنوا أمام إصراري وتركوني وشأني.

وفي اليوم التالي حضرت إلى درس الصباح على ما فيَّ من ضعف وإعياء، وكان يلقيه غير الأستاذ “أنطوان”، فمكثت نافد الصبر دون أن أصغي إلى حرف منه. ولما حان درس الأستاذ “أنطوان”، تأهبت وترقّبتُ، غير أن أستاذا آخر دخل بدلا منه وكان ميعاد درسه غدا، فأخبرنا أن الأستاذ “أنطوان” اعتذر عن درسه اليوم لانشغاله بلقاء وليّ الأمر والنعم، وسيلقي هو درسه اليوم بدلا من الغد، على أن يلقي الأستاذ “أنطوان” درسه غدا. غاضت روحي، وازددت إعياء، ومرّ عليَّ اليوم كأنه دهر لم أعِ شيئا مما قيل فيه.

وفي المساء بتّ أتفكر حتى كدت والله أنثني عما كنت قد انتويته، لكنّ الأمر جلل ولا يحتمل التردّد أو الخذلان، فاستمسكت بما انتويت. ظللت طيلة الليل مؤرّقا ساهما غير واعٍ بحديث رفاقي إليَّ، فأرجعوا الأمر إلى إعيائي، ونصحوني بالراحة وملازمة الفراش.

وفي اليوم التالي جلست في الصف الأول متحفزّا. دخل الأستاذ “أنطوان”، وألقى التحية، وهنّأني على شفائي وعودتي، فأومأت له صامتا، وشددت القبضة على الخنجر أسفل ثيابي، ثم شرع هو في إلقاء درسه. ظللت أترقّبه حتى تقدّم إلى طاولة التشريح، وبدأ الرفاق يتأهّبون لمتابعة الدرس، فوجدتني أنطلق نحوه فجأة في منتصف الدرس على غير المعتاد. نظر نحوي متعجبا، فناولته -مرتبكا- صحيفة كنت قد لفَّقتُ فيها أسئلة ملتمسا منه إجاباتها. أمسك الرجل بالصحيفة وبدأ يطالعها، وبينما أنا ناظر إلى وجهه إذا بالغيظ يبلغ بي ذروته، فوجدتني أشهر خنجري لأطعنه في وجهه الناعم المقيت، لكن الخبيث تفادى الضربة وأمال رأسه سريعا، فأعدت الكرة موجها طعنتي صوب قلبه لا ألوي على شيء. والله يا أخي لقد كدت أغرس نصلي في صدره، كنت قاب قوسين أو أدنى من الخلاص، ولا أدرى كيف أزاح يدي في اللحظة الأخيرة، ثم تجمعوا حولي وأمسكوا بي وانتزعوا الخنجر من يدي قبل أن أتمكن منه. صرت أصرخ فيهم وأتلوّى بين أيديهم وهم يخرجونني من القاعة، حتى أسلموني إلى ما أنا فيه، وأنت أعلم بما تلا ذلك. وذلك ما كان من أمري(Π).

وقد سألتني إن كنت قد ندمت على ما اقترفت يداي، فاعلم أنما ندمي على أني كنت أبطأ منه، فلم أزهق روحه كما عزمت. أقول هذا وليقولوا في شأني ما يشاؤون. ولو تكرّر بي الأمر لسددت إليه الضربة أقوى وأسرع، ولكِلتُ له بدلا من الطعنة عشرا. لكنّ العجيب في الأمر أن أكثر ما جعلني أندم على إفلاته من يدي هو أنني موقن تمام اليقين أنني لو كنت قتلته لكنت اقتنصت الفتاة ذات الشعر الأشقر وظفرت بها. وكلما ذكرتها الآن تفطّر قلبي على إفلاته منى. ومهما حاولت إقناع نفسي بغير ذلك فلا أفلح، ولا تسألني كيف، فما عدت أفقه من أمري شيئا.

هذا كتابي قد أفضيت فيه إليك بأمري كله، فاحفظه عنّي، وافهم ما أودعته من الإشارات، وبلّغ مقالتي من لم يسمعها، ورد عنّي غيبتي، فإنك نعم الصاحب والمعين. والسلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى