دلالات المطالع في قصائد الجاهليّين

محمد موسى العويسات | فلسطين

لا شكّ أنّ مطلع القصيدة هو عنوان يوحي بمجمل معانيها ويشير إلى موضوعها، ويشي بالجوّ النّفسيّ الذي يسيطر على الشّاعر ويبتغي شحن القارئ به، وهذا ما أسماه النقّاد والبلاغيون بحسن الاستهلال.

وقد اهتمّوا به أيّما اهتمام، فرأوا أنّ امرأ القيس قد أبدع في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، وقد عابوا على ذي الرّمّة، وهذا في العصر الإسلاميّ، قوله في مطلع مدحة لعبد الملك بن مروان: ما بال عينك منها الماء ينسكب…

يقول ابن الأثير في المثل السّائر: ” وإنّما خُصّت الابتداءات بالاختيار؛ لأنّها أول ما يطرق السّمع من الكلام، فإذا كان الابتداء لائقا بالمعنى الوارد بعده توفّرت الدواعي على استماعه”. و هكذا كانت مطالع القصائد ذات شأن عظيم، لها دلالات تتجاوز النّصّ الحرفيّ والمعنى المعجميّ للكلمة، كقول عنترة: هل غادر الشعراء من متردّم؟… هذا شطر من مطلع المعلّقة، وقصد به أنّ من سبقه من الشّعراء لم يتركوا أمرا إلا قالوا فيه شعرا، فكأنّه مسبوق في هذا ولا يجد أمرا ينظم فيه.

وهذا له دلالات كبيرة، فلا يُقصر وصف هذا المطلع على أنّه أجمل أو أبدع استهلال، بل يعني أيضا أنّ هناك شعرا كثيرا وأغراضا كثيرة قيل فيها الشّعر، ولكنّها لم تصلنا، أو ما وصلنا منها إلا القليل، والجدير بالذّكر أنّ الاستفهام هنا يفيد النفي، وأمر حرف الاستفهام (هل) أمر عجيب، إذ يأتي لمعان كثيرة منها الاستفهام الحقيقي أي بمعنى الهمزة، كقولنا على سبيل المثال: هل وصلت؟ ومنها معنى التّحقيق والتقرير كقول الله تعالى: ” هل أتاك حديث الغاشية؟” يعني قد أتاك حديث الغاشية، ومنها النّفي كقول الله تعالى:” هل جزاء الإحسان إلا الإحسان” ، يعني ماجزاء الإحسان إلا الإحسان، لهذا كانت هل من أدوات الحصر، كقولنا: هل محمد إلا رسول؟ أي ما محمد إلا رسول، وابتداء الشاعر قصيدته بالاستفهام الذي يفيد النّفي له دلالات نفسيّة، فبدا وكأنّه يسعى إلى التميّز ويريد إظهار تفوّقه، فهو ذو قدرة على الإتيان بشيء جديد مع قلّة الفرصة، وبقوله هذا يحفظ لنفسه العذر لو قصّر، أمّا الشّاعر الصعلوك الشّنفرى الأزدي فقد أبدع في مطلع لاميّته لمّا قال: أقيموا بني أمّي صدور مطيّكم… فإنّي إلى قوم سواكم لأَميَلُ هذا عنوان للمفاصلة، فيطلب منهم أن يلزموا مواقعهم وما هم عليه، فإنّه مفارقهم إلى قوم آخرين، فالمقصود بـ (أقيموا صدور مطيّكم) الزموا وابقوا على ما أنتم عليه، ولا يفهم المعنى الحرفيّ للعبارة والذي قد يُفهم منه أن استعدّوا للرّحيل، وهذا فهم قاصر، فالشّاعر هو الذي يريد الارتحال والمفارقة، فلا يستقيم أن يدعو قومه للرّحيل، وقوله (بني أمّي) له دلالات جميلة منها أنّه مُضحّ بهم ومفارقهم رغم ما بينه وبينهم من قربى وأرحام، وهذا موقف لا يقفه إلا صاحب مبدأ أو خلق خالف فيه قومه وتمرّد به عليهم، فالموقف صعب جدا والتضحية كبيرة.

وإذا ما عدنا إلى لفظ: أقيموا وأقام وأقم فإنّها لا تعني القيام الذي هو المثول وقوفا، بل تعني الملازمة للشّيء والثبات عليه، ومن هذا القبيل قوله تعالى:” وأقيموا الصّلاة”، وقوله تعالى: ” لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائما”، والذي يؤكّد طلبه أن يلزموا أماكنهم ومنازلهم ولا يرتحلوا قوله: صدور مطيّكم، إذ جاء بكلمة الصّدور، ولزوم صدر المطيّ هو منع لها من التقدّم، ولو أراد أمرهم بالرّحيل لقال: الزموا أعقابها، يعني دعوها ترتحل، فالمرتحل لا يلزم صدر المطيّة وإنّما يلزم عَقِبَها، فهو متعقّب، من وجه آخر لا يستقيم أن ينوي مفارقتهم ويأمرهم بالرّحيل. وهكذا أجاد الشٌنفرى وعنترة أيضا الاستهلال.

 ومن المطالع الموحيّه بالجوّ النفسيّ قول عمرو بن كلثوم: ألا هبّي بصحنك فاصبَحِينا… ولا تبقي خمور الأندرينا فالمعلّقة غرضها الرئيس هو الفخر والتهديد والوعيد والتمرّد على الملك عمرو بن هند، فاقتضى من الشّاعر أن يكون في حالة استعجال (ألا هبّي) وحالة التبكير (فاصبحينا) والصَّبوح هو شراب الخمر وقت الصبح، واقتضى السّكر ليقول ويفخر ويبدع، واقتضى الاجتثاث وأن يأتي على الخمر؛ لأنٌه يحمل نفسيّة من لا يريد أن يبقي لعدوّه سترا إلا هتكه. بل يريد أن يجتثّه، فقال مخاطبا أمّه (ولا تبقي خمور الأندرينا)، ويظهر المطلع نفسيّة المتعالي المتكبّر.

 ويقال في حسن المطلع ما يقال عند العرب أنّ المكتوب يقرأ من عنوانه.. ولا يقتصر في حسن المطلع والاستهلال على الشّعر، بل يعمّ كلّ فنّ من فنون الأدب في القديم والحديث. لذا تجدّ للقصّة استهلال وتقديم وكذلك الرّواية، حتّى المقالة لا بدّ لها من استهلال يسمّونه الجملة أو العبارة الافتتاحيّة، ولا تجد كلّ المجيدين في هذه الفنون النظميّة والنثريّة يجيدون هذه الجزئيّة الخطيرة في البناء الذي ينشئونه، وقد وجدت التلاميذ مثلا، يسألون عند تكليفهم بمقالة أو خاطرة سؤالا واحدا هو كيف نبدأ. فأجد من يتقن البداية ويهتدي إليها يجيد ما تبقّى من التّفاصيل. فكيف بدأوا أو كيف نبدأ، هو أول أمر يجب إن نتقنه أو نعلّمه إن كنّا معلّمين. 4/ 11/2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى