« ليا » الصابرة زوج أيوب « الأواب »

د.محمود رمضان | أكاديمي مصري

 

يتحدثون عن صبر أيوب، نسبة إلى سيدنا أيوب، عليه السلام، ومدى صبره لثمان عشرة سنة على المرض والابتلاء، لكن سيدتنا (ليا)، زوجه، شاركته الصبر واقتسمت معه المعاناة، وشربت معه من قسوة الحياة ومرارتها كؤوسا مترعة، بعد أن فر منهما القريب والبعيد، إنها ليا بنت يعقوب، وقيل إنها ليا بنت منشا بن يعقوب، وجد الزوجين (ليا وأيوب) الأكبر هو سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

كانت سيدتنا (ليا) ذات حسب ونسب وجمال باهر، وكانت النسوة يحسدنها على جمالها ووجهها الصبوح وطول شعرها، وتزوجها سيدنا أيوب الثري العزيز في قومه، الكريم مع القريب والبعيد والغريب، واصطفاه الله ليبلغ دعوته التي جاء بها أنبياء ورسل الله جميعا، عليهم السلام، وهي (لا إله إلا الله)، وأن يعبدوا الله لايشركون به شيئا.

واجتهد سيدنا أيوب في دعوة قومه إلى الله، وعبادته وحده لاشريك له، ساعده في دعوته كرمه الشديد وحبه للناس جميعا وحب الناس له، وأنعم الله عليه بامتلاك منطقة حوران كلها في الشام، وكانت له الأرض الزراعية الخصبة التي لا يستطيع أحد رؤية نهايتها، وآلاف الإبل والبقر والغنم والخيل، فكان الثراء الشديد الذي لا نهاية له، وأنجبت له زوجه عدداً كبيراً من الأبناء والبنات، عاشوا جميعاً في طاعة الله تبارك وتعالى ورغد من العيش، فاجتمع الثراء والذرية الصالحة في بيت سيدنا أيوب حتى بلغ السبعين من عمره.

وكلما أنعم الله على سيدنا أيوب وزوجه من الزروع والثمار، زادت صدقاتهما وبرهما للجميع.

لم يكن يخطر ببال أحد ما سوف يؤول إليه حال الزوجين، ثم جاء امتحان الله لعبده، فالأنبياء هم الأكثر ابتلاء ثم الصالحون، والأمثل فالأمثل، فبارت الأرض، ونفقت البقر والإبل والغنم والخيل، ومات أولاده وبناته تباعا، وأصيب سيدنا أيوب بالمرض العضال، وحل الفقر والعوز في البيت الذي كان عامراً، وبدأ الناس ينصرفون عنه تباعا، حتى جيرانه وأقاربه، وأصبحت داره موحشة، الفقر يسكنها، والعزلة عنوانها ومستقرها ومستودعها.

في زمننا هذا لو حدث ما حدث وانقلبت النعمة الوافرة إلى فقر مدقع لهربت زوجه منه، لكن سيدتنا (ليا) صبرت مثلما صبر سيدنا أيوب على الابتلاء، ثكلى فقدت أبناءها وبناتها، فقدت العز والمال والجاه والثراء وحياة الرغد، وتجرعت معه كؤوس الجوع والحرمان، مترعة بالمر والعلقم، لكن حلاوة الإيمان بالله والصبر كانا الملاذ والمأوى للزوجين الحبيبين.

الصابرة المحتسبة كانت دوما بجوار زوجها، راضية بما قضاه الله وقدره، عاشت معه في الرغد سنوات طويلة، فقررت الحياة معه في سنوات شدته، ليس صبرا فحسب، بل الرضا، فلم تجزع ولم تغضب، بل كانت تفيض عليه بحنانها لتخفف عنه آلام مرضه وشدة فقره.

وعم المرض جسد سيدنا أيوب، ولم يتمكن المرض من قلبه ولسانه اللذان يذكر بهما الله تبارك وتعالى.

ولم تجد سيدتنا (ليا) بداً من التفكير في إيجاد عمل يكفي للعيش مع زوجها ولو على حد الكفاف، فكانت تخدم الناس بالأجر، رضي الله عنها وأرضاها، حتى كف الناس عن خدمة (ليا) لهم، فلم تجد مالاً تشترى به طعامًا لأيوب، ولأن شعرها كان جميلاً وطويلاً، فقطعت إحدى ضفيرتيها، وباعتها لإحدى بنات الأثرياء، واشترت بثمنها طعامًا قدمته لأيوب، فسألها: من أين لك هذا؟ فقالت له إنها خدمت به أناسًا، فلما كان اليوم التالي، لم تجد أحدًا يستخدمها، فباعت ضفيرتها الثانية واشترت بثمنها طعامًا، فأتت به أيوب، فأقسم ألا يأكله حتى تخبره من أين لها بهذا الطعام وكشفت (ليا) عن رأسها، فلما رأى أيوب رأسها بدون ضفيرتيها، أقسم ليضربها مائة سوط لكذبها عليه.

فازداد حزن أيوب لبيع زوجه ضفيرتيها لإطعامه، وزاد حزنه لأنه تسرع في القسم بضربها مائة سوط، وهي البارة به، الصابرة المحتسبة، التي تحملت مالم تحتمله سيدة على وجه الأرض، صادقة الحب والوفاء له، وما زاد حزنه هو سماعه حوارا دار بين صديقين له كانا من خلصائه، قال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا، فمنذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه ربه فكشف ما به.

فخلا أيوب لربه يناجيه، يدعوه، بلسانه وقلبه، يقول الحق تبارك وتعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، لتأتي استجابة الرحمن الرحيم بعباده وعبده أيوب، في قوله جل جلاله: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ»، وقول الحق: «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ»، ليأتي الله بأمره لنبيه أيوب: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ»، فيضرب سيدنا أيوب الأرض بقدمه الواهنة الضعيفة، فيتفجر الماء من الأرض، ينبوعا، فيبرأ سيدنا أيوب من أسقامه فور اغتساله بالماء وشربه منه، فيعود صحيحا سليما معافى، فلم تعرفه زوجه (ليا)، فلما عرفته فاضت عيناها بدموع الفرح لشفاء زوجها في لحظات، وتأكدت أن الله سيوفيهما أجرهما بما صبرا.

ثم جاء الله بالخير العميم الوفير لسيدنا أيوب وزوجه، من أرض خصبة وآلاف الأبقار والإبل والأغنام والخيل، وأنجبت سيدتنا (ليا) من جديد الأولاد والبنات، وأصبحا في حال خير من حالة الثراء والرغد الأولى، يقول الرحمن الرحيم: «وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ».

ثم جاء سيدنا أيوب ليبر بقسمه بضرب سيدتنا (ليا) مائة سوط، فأوحى الله إليه أن يضع في يده عرجونا به مائة شمراخ من النخل ويضرب بها زوجه ضربة واحدة فيكون قد بر بقسمه ولم يحنث، يقول الحق: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ»، ثم أثنى الله سبحانه وتعالى على سيدنا أيوب، فقال: «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

ولأن اختلاف العلماء رحمة، بتعدد فهمهم لكتاب الله عز وجل، وأبحاثهم الكثيرة العميقة في سير الأنبياء وأزواجهم، فقد قال بعضهم إن اسم زوج أيوب (ليا)، وآخرون قالوا إن اسمها (رحمة)، وأن رحمة أو ليا بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام، وهي زوج النبي أيوب عليه السلام بن موهب بن تاريخ بن روم بن العيص بن إسحاق عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام وأم أيوب عليه السلام هي بنت لوط عليه السلام.

وقال علماء إن (ليا) توفت في حياة سيدنا أيوب، وقال آخرون إن سيدنا أيوب توفى وبعده بسنوات قليلة لحقت به زوجه، ودفنت بأرض الشام.

وجزاء الصبر صلاة من الله على الصابرين المحتسبين، ومنهم سيدنا أيوب وزوجه، لقول الحق: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»، فاللهم اجعلنا من الصابرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى