الطريق الوعر.. رواية قيد الكتابة

محمد حسين أبو حسين | أديب فلسطيني- سوريا

طريق كهلٌ بثمار أشواك المُّرَار يستلقي تحت الأقدام  الضاحكة، يثقب أحلامها الصباحية بأنيابه الشرهة، يجفف عرقها لكأس يقدمه مع وجبة عشاء  فاخرة. الأقدام التى احترفت الصراخ بهدوء تمشي مع هدهدات الندى المتساقط، تموج يميناً ويساراً تتكئ على عصا دموعها وتواصل المسير. 

في الصباح الباكر تستيقظ صفاء، ترشق وجهها برشقات متتالية من الماء البارد، تمشط شعرها الليلي المترامي على كتفيها، تحدق للحظات في مراتها، تضحك ؛لم تقتحم وجهي بعد تعاريج الزمن القاسي. تخرج إلى غرفتها، ترتدي ثبابها العادية، لكنها تصنع منهن أشياء مثيرة للجدل؛ تربط قميصها من الأمام ببعضه، تنهض بقبته إلى الأعلى، ترتدي جاكيتها القصير، وتخرج من تحته قميصها. تذهب إلى المطبخ، تتناول فطورها المفضل  (زعتر وزيت) من على مائدتها المتواضعة.

تخرج صفاء من منزلها تستقبل شارع المخيم الرئيسي، صور معلقة للشهداء، برشورات لمناسبات عدة، إعلانات متعددة، وشارع يكاد يكون لوحة سريالية! بائعي القهوة والشاي والحليب ينتشرون على ضفتي الشارع، المحال التجارية مغلقة بعد وصل أصحابها الليل بالنهار، وحدها محلات بيع الفلافل والفول والحمص تستحوذ على الشارع في الصباح الباكر، رائحتها تجبرك على التوقف أمامها والتلذذ بها. المارة يتبادلون الابتسامات والتحايا كأنهم من عائلة واحدة، عطر الصبايا يجر أنف الريح بسلسلة  ذهبية. تعبر صفاء الشارع بخطى بطيئة على الرغم من زخات المطر المتفرقة، كما تفعل كل صباح عند ذهابها إلى جامعة دمشق حيث تدرس هناك في كلية الآداب قسم الفلسفة. 

صفاء، ذات البشرة الحنطية، صاحبة الشعر الأسود الطويل، المنحدرة من أسرة فقيرة جدا، لديها خمسة اخوه هي أكبرهم سنا، والدها خليل الذي أحيل للمعاش يجاهد للحصول على عمل لسد رمق الأسرة. تخترق صفاء كل يوم الطرق المؤدية إلى جامعتها، وفي الطريق كانت تقوم بحركات تبدو غريبه لناظريها؛ لم تترك شيئا إلا وتعبث به، حتى نعوات الموتى المعلقة على الجدران لم تسلم من خربشات قلمها اللاذع، وقفت أمام إحداها، وقد كانت لرجل سبعيني يرتدي ربطة عنق حمراء، وضعت يدها على شعرها أمسكت بخصلة منه وراحت تلفها على إصبعها المشاكس، تذكرت مدرّس اللغة الانجليزية، المادة التى كرهتها منذ الصغر حتى باتت تحرض زميلاتها على عدم الاهتمام بها  لأن أصحابها قد دمروا وطنها. استلت قلمها بعنف من الجيبة الخلفيه لبنطالها حيث كانت تضع القلم في مشهد يبدو عبثيا للوهلة الأولى، أمسكت القلم بقوة كأنها كانت تقبض على فريسة، كتبت على النعوة: (أنت السابق والأستاذ منيب اللاحق قريبا)، بعدها أطلقت ضحكة اخترقت أحشاء حبات المطر الخفيفة، وتابعت طريقها إلى الجامعة مشياً على الأقدام لأن وضعها الأقتصادي لم يكن يسمح لها بركوب وسائل النقل المختلفة.

شوارع دمشق باتت مألوفة لها، حفظتها عن ظهر قلب بعد أن أصبحت جزءاً من أشيائها، تتأملها في كل صباح. تعبر صفاء حيَّ باب مصلّى الدمشقي القديم، حيث تتعالى صيحات الباعة على البسطات المختلفة مشكلةً ما يشبه الضجيج المقطع الأوصال، معالمه القديمة تغفو على راحتي التاريخ، تنحرف يساراً إلى حي البرامكة، ذات البيوت المتراصة، تشد عيونها إليها سارحةً في جنباتها، تسأل نفسها: ماذا كان يفعل

السكان الأقدمون هنا عندما كان يفترسهم غضب الطبيعة وقسوة الحياة؟

تتابع اختراق الشارع المؤدي إلى شارع المزة، حيث مبنى الإذاعة والتلفزيون، تقف برهة تنظر إلى المبنى، “كان حلمي أن أدرس إعلام، لكن معدلي لم يسمح بذلك! سأعوض ذلك عندما أصبح أماً، سأدرّس أبنتي هذا الاختصاص،” تعبر إلى ساحة الأمويين العريضه المملوءة بالورود من كل الأصناف مشكلة لوحة تجذب ريشة فنان، تداعب الورود وبعض الأشجار المترامية على جانبي شارع المزه حيث جامعتها.

خالد الشاب الوسيم، صاحب الشعر الأسود الداكن والطول الملفت للانتباه والعضلات المفتولة التي رعاها عندما كان يرتاد نادي كمال الأجسام في مدينة نابلس، المنحدر من أسرة ثرية بعض الشىء، الطالب الجامعي الذي كان يدرس مع صفاء في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، قدم من هناك  للدراسة والتدرب على أشياء لم يكن يعرف بها من قبل.

لقد أرسله عمه أبو علي الناشط في اتحاد نقابة العمال للدراسة في جامعة دمشق، حيث قال له قبل أن يغادر إلى سوريا: “ستدرس هناك وتتعلم أشياء أخرى..”.

لقد استوقفت خالد عبارة عمه، قفزت إلى ذهنه أسئلة متسارعة ما لبثت أن أطلقت العنان للسانه الذي كان غالباً لا يتحرك أمام عمه صاحب الشخصية القوية.

عمي، لقد فهمت أنني سوف أدرس في جامعة دمشق لكنني لم أفهم ماهي الأشياء الأخرى التي سأتعلمها هناك! سأل خالد.

أبو علي: لا تتعجل الأمور يا بني، في السنة الأخيرة للجامعة ستعرف كل شيء و ربما قبل، بالتوفيق إن شاء الله..

خالد، ينتظر صفاء منذ الصباح، يقف في زاوية الشارع المقابل للجامعة، تحت مظلة لبائع القهوة والشاي، حيث قاسمه على مساحة الوقوف تحت المظلة حتى لا يتبلل كثيراً. تصل صفاء ملوّحةً من بعيد بيدها لخالد قائلةً: أنا هنا… 

رشقات صوتها ترددت صداها في أرجاء الشارع المكتظ بالطلاب ووسائل النقل، الأفراد القريبون منها بالشارع نظروا لها نظرة غير طبيعية، انتابهم شعور بأنها مصابة بلوثة عقلية، بينما

هرول خالد نحوها مسرعا.

خالد: صباح الخير يا صفاء أنصحك أن تقلعي عن هذه الحركات البهلوانية.

صفاء : صباح النور، أولا ثانيا لا عليك الكل مصاب بلوثة من قساوة الحياة، لكن الله وهبني قدرة على إفراغ حمل هذه القساوة بهذه الحركات، أما غيري فأنا أحزن عليهم لأنهم ينتظرون الجلطة في أي وقت نتيجة صمتهم. ضع يدك في يدي لنعبر هذا الشارع اللئيم فأنا أخشى من السيارات المسرعة.

دخلا إلى الجامعة، توجها إلى الطريق المؤدي للبوفيه، دفع خالد الباب الزجاجي للبوفيه بيديه الراجفتين حيث كان أصدقاؤه يحتسون القهوة، بقي لحظة جامداً يقطر الماء من شعره وثيابه المبللتين، شاخص العينين. نظر إليه أحد أصدقاؤه وانفجر ضاحكاً.

ماذا تشرب؟ 

عصير الليمون..

هل صديقتك هي التي جعلتك مبلّلًا لهذه الدرجة؟

أدرك خالد ضوضاء البوفيه التي كانت تتصاعد منه أدخنة كثيفة كسحابة ضباب لامست جبال جرداء.

قهقهات من هنا وهناك أصوات متداخلة مع زخات المطر في الخارج.

أحد أصدقائه، الدميم جداً، يدعى سعيد، والذي تطغى عليه روح الفكاهة، توجه لأصدقائه بالقول: أراهن أن صديقة خالد مصابة بانفصام في شخصيتها، انظروا إلى حركاتها جيداً..

محمود الشاب الذي لا تغادر الكوفية عن كتفه، يرد قائلا: لكن يا سعيد، تبدو فائقة الجاذبية وملفتة للانتباه، أراهنك أنك تودُّ الجلوس معها لتتعرف على هذه الشخصية المركبة!

سعيد: أجل لقد صدقت..

سعيد منادياً على خالد: هل أستطيع أن أدعوكما على فنجان قهوة أنت وصديقتك.

صفاء: ليس لدي وقت لأسمع أحاديث باردة مغلَّفة بورق الفراغ.

لنجلس يا خالد على هذه الطاولة القديمة المكسوة بسيل من الكلمات المحطمة التي كتبت عليها.

خالد: هذه طاولة بالية جداً!

صفاء: أريد أن أجلس عليها لأقرأ خربشات الأقلام الحالمة.

جلسا على الطاولة، أحضر خالد كأسين من الشاي المعتّق ليمنح جسديهما بعضاً من الحرارة التي فقداها من برودة الجو.

كانت صفاء ترتشف جرعة من كأسها وعيناها تحدقان جيداً في الكتابات الموجودة على الطاولة.

صفاء: أنظر يا خالد إلى هذه العبارة المكتوبة عليها؛ (لقد كسرت قلبي قساوة الحياة وأنا في طريق الوجع ألتحف بغطاء الضياع!). يتبع(جزء من روايه ).

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى