ميدييا وأبناؤها.. شَخْصيَّةُ الهَامِشِ والسُّلطة

د.موج يوسف | ناقدة وأكاديمية عراقية

تطالعنا الرواية من بدايتها بمشهدٍ عن سيّدةٍ أرمَلةٍ ذات أصول يونانية بقيت الوحيدة من عائلتها تسكن في جزيرة القرم بعدما ترمَّلتْ في زهرِ ربيعها.

رواية ميدييا وأبناؤها للروائية المعاصرة الروسية (لودميلا أوليتسكايا) ترجمة د. تحسين رزاق عزيز، والصادرة حديثاً عن دار المدى في بغداد. تتحدث الرواية عن ممرضةٍ تدعى (ميدييا) والتي توشحت بالسَّوادِ لمدة عشرة أعوام حزناً على زوجها (صاموئيل) طبيب الأسنان اليهودي ثم خففت السّواد بألوان ذات بقع بيضاء صغيرة.
ميدييا لديها الكثير من الأطفال الأحفاد لكنّهم ليسوا أولاد أبنائها ولا بنانتها لأنَّها لم تنجب وإنما هؤلاء الأطفال أبناء إخوانها وأخواتها.

الرواية كُتبتْ بضمير الغائب (براوٍ عليم) أي يعلم أكثر ممّا تعلمه الشخصيات وهذا ما يجعلنا نحدد نوع التبيئر ( وجهة النظر) في الرواية والذي يكون (درجة الصفر) بمعنى غياب وجهة النظر في السرد الروائي؛ لذلك نلحظ بداية المشاهد والوصف السرد وَرَدَ فيه تقديم شخصيات متعددة وكثيرة، وقد عمِلتْ الكاتبة على تقديم شخصيات هامشية تَظهرُ بدورٍ ثانوي ثم يُخفيها الراوي العليم لتظهر أخرى مكانها.

ومن أهم الشخصيات هي (صاموئيل) زوج ميدييا يهودي ، وطبيب أسنان، مقاتل ضمن وحدات المهمات الخاصة في الحرب العالمية، عضو في الحزب الشيوعي وقد توفي بسبب ضعف جسده عام 1952 ، وبالرغم من انتمائه الحزبي الا أنه لم يشفع له بأن يبقى مهمشاً في المجتمع الروسي؛ لكونه يحمل هويّة هامشية من فئة الأقلية فحتى مكانته الاجتماعية لم ترفع من شأن شخصيته  كذلك تخرج من عائلة ميدييا المتشعبة شخصية الفتاة الشاعر (ماشا) التي تربتْ في كنف جدتيها (الكسندرا) أم أمها و( فيرا) أم أبيها، ألكسندرا أخت ميدييا الصغرى والتي عُرفتْ بتعدد العلاقات ، وتعدد الأزواج ولها ابنة من أحد الجنرالات تدعى (تانيا) والتي تزوجت من (سيرغي) وانجبا (ماشا) والتي عاشتْ طفولتها بظروفٍ نفسيةٍ سيئةٍ عندما تعرض والديها لحادثٍ خسرا فيه حياتهما، والاضظراب النفسي ظل يرافقها حتى في شابها لكنّها تعرفتْ على الشاب (أليك) الذي اتصفتْ شخصيته بالعيوب البدينة، ومزاياه الفكرية لكنّه كما تذكر الروائية: ( قاسى كثيراً من التهميش وخمّن بشكلٍ غامض أن ذلك مرتبط بمزاياه أكثر ممّا هو مرتبط بعيوبه.

كان والده الذي يعمل في هيئة التحرير في دار النشر العسكرية يخجل طوال حياته من وضعه كمواطن من الدرجة الثانية بسبب أنه يهودي) ص 266 .

فهذه الشخصيات المهمشة في المجتمع قد عمدت الكاتبة إلى توظيفها في البناء السردي وما هي الاّ مهرباً من ضغط السلطة ورقابتها على المنتج الأدبي؛ لأنّ الهامش لا يثير انتباه السلطات السياسية، لكونهم لا يشغلون أهمية كبرى ولا ينافسون من أجل الاستيلاء على منصب أو مكانٍ هامٍ ، بل حتى الممرضة ميدييا تنأى عن الخوض في القضايا السياسية وقد ورد على لسان شخصية غيورغي قائلاً: (شر العالم كله يكمن في السلطة السوفياتية.

بينما أحد إخوتها قُتَل على يد الحمر والآخر على يد البيض ، وخلال الحرب واحد قتله الفاشيون الألمان والآخر قتله الشيوعيون، وبالنسبة لها السلطات كلها متساوية) ص55 فميدييا فقدت إخوتها بسبب صراعات السلطة الأيديولوجية والتي تسعى كل منها إلى فرض هويّتها على الآخر . فالروائية لودميلا ترى السلطة هي مصدر لقتل الحياة وكلّ ما هو جميل لذلك عمدت إلى توظّيف الشخصية ذات الأقلية والهامشية لنرى الآخر الموت والقبح في السلطات والشخصيات صاحبة السيادة.

ومن ناحية أخرى جعلت مع الشخصية المثقفة إعاقة سواء أكانت جسدية أم نفسية وشخصية (ماشا) تعاني من اكتئابٍ حادٍ بالرغم من غزارتها في الإنتاج الشعري وحبّ إليك زوجها لكنها دخلت بعلاقةٍ شائكةٍ مع الطبيب (بوتونوف) والذي جعلته الروائية شخصية من الهامش حين أعطته صفات تحملُ السذاجةً، ولم تلبث الاّ وانتهت قصة ماشا بالانتحار والموت. الكاتبة لودميلا تعطي توازناً لهذه الشخصيات للحفاظ على الذّات، فالمهمش والمنبوذ لا يقفدُ تبقى فيه الصفات الإنسان أو الإنسان نفسه، بل حتى نجاحه لا يؤثر على الآخر لأنّه لا ينافسهُ.

ولا بد أن نُلفتَ النظر إلى اسم البطلة (ميدييا) الاسمُ والصّفاتُ الشخصية منتقاةٌ من الأسطورة الإغريقية المعروفة بسحرها والتي تزوجت الملك (اوغيس) وانجبت منه ابناً (ميدوس) ويعدّ ابنها سلف شعب (الميديين) فهذه الأسطورة كانت تسعى لتكوين شعباً وكذلك بطلة الرواية ميدييا التي امتهنتْ التمريضَ وهي مهنة إنسانية ، وربَّتْ الأبناء والأحفاد من الأقارب أو غيرهم يمكن أن نعد هؤلاء أيضاً شعب ميدييا.

الروائية أعادت الشيء إلى أصل وهو الأم التي الجوهر الإنساني. وتندرج الرواية ضمن قضايا النسوية وفكرتها الثورية لأنها عالجت قضايا الأقلية والهامش والمرأة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى