دراسة في مجموعة ” هويّتي واحةُ نخيل” للتونسية فاطمة سعد الله

الهادي العثماني | ناقد وأديب ليبي

الشعر عند فاطمة سعد الله إبداع لا بدعة

      منذ ظهور الموجة الجديدة من الشعر الحديث في الخمسينات من القرن الماضي في بعض البلدان العربية السبّاقة إلى الأخذ بأسباب الحداثة في مجال الفكر والأدب، وانتشار ذلك عبر أغلب الأقطار، اختلفت الآراء وتباينت المواقف حول هذا النمط من القول بين منكر له رافض، وقابل به راض، ومتحيز له متهافت عليه. يُنَظّرُ لمشروعيته، ويكرّسه صنفا من الإبداع جديدا، حتى بلغ الشأن بهؤلاء وأولئك إلى شنّ معارك طاحنة، واشتد الجدال محتدما وتواصل النقاش دون أن يبلغ فيه أحد الطرفين نتيجة فصلا، ولا أدلى حياله النّقاد برأي نهائي، ولكن يلزمنا عقود من الزمن حتى تتغير طبيعة السؤال الشعري، ويكون الشاعر قد اكتسب الخبرة الكافية لتجاوز المرحلة من البدعة إلى الإبداع، والتمكّن من هذا الصنف الجديد من الكتابة الشعرية التي يعاديها طيف من الجمهور في نظرته إلى هذا النمط من الإبداع المبتدع في تعاطيه المريب لهذا الصنف الجديد من الكتابة الشعرية التي يرفضها أغلب القرّاء في موقفهم من الحداثة، ولن يكون ذلك حتى يحقق الشاعر الحديث مستوى من الإبداع في هذا النسق المستحدث، وحتى يتصالح القرّاء  مع نمط من الفن وافد فيطمئنّ إليه وتستسيغه الذائقة العامة. وإنّ كل إبداع مهما كان نوعه لمحكوم بصيرورة تاريخية تحتّم عليه أن يتغير مع الزمن باتجاه التطور لمواكبة العصر، وإلاّ حكم على نفسه بالتلاشي والانقراض.

       أنا لا أُنَظِّرُ لهذا النوع من الشعر، ولا أحترز حياله، لأنني لا أختار الأشكال الشعرية، ولا أفضّل بعضها على بعض، لأن ما يشدني هو مدى قدرة النص على استقطاب الجمهور وشدّ القارئ بما يحشده من أدوات اللغة وتأصّل الطرح في إثارة الأسئلة الحارقة ومدى إخلاصه في إبراز القضايا وصنع المناخات التي تجعلك تحلم بما أنت في حاجة إليه، فالشعر حلم مطلوب، والقصيدة مجاله… أما آن لنا أن نتجاوز هذه التصنيفات المتعسِّفة وتنميط الكتابة الشعرية بما يسطّحها لنتخلّص من ظاهرة التعامل مع الشعر بنظرة مسبقة مبنية على رؤى قديمة، وإنما هي ثورة الشعر على نفسه للانعتاق من أغلال القافية والتحرّر من أصفاد الوزن لحساب بناء صورة شعرية جديدة وتحقيق إيقاع داخلي يُؤَمّن النص باتجاه تكثيف ثخين في حشد المعاني وإنهائها وتحميل صورة شعرية مركّبة ومعقّدة وثرية تغادر السطح وتضرب عميقا في المعاني، معاناة ومخاضا عسيرا، وإنما سُمِّيت المعاني معانيَ لما يعيش حاملها من معاناة، والشعر معاناة لا محالة.

      إن القضية التي ماانفكت تثار في وجه الأنماط الشعرية الحديثة، إنما هي قضية موهومة ومفتعلة، فليس هناك شعر حداثي وآخر كلاسيكي. هناك شعر أو لا شعر… كم من نثر يفوق روعة وإبداعا كثيرا من القصائد التي يزعم أصحابها قول الشعر، ولكنهم لا يأتون غير لغو ممجوج فيسيئون إلى الشعر، ويسيئون إلى القارئ، ويسيئون إلى أنفسهم.

      إن حقل الإبداع أوسع من أن يضيق بالأصناف كلّها ما دام الفنّ سمته، والشعر مأدبة باذخة توفر للقارئ شتّى أنواع الأطعمة والكؤوس، وتمنحه الغذاء الفكري والوجداني بقدر ما تحتويه من الأنواع والأصناف، طالما كانت شهيتنا مفتوحة وحالتنا الصحية جيدة لا تشكو اعتلالا، فنصيب من هذا الطبق أو ذاك ما يحلو لنا أن نصيب. إن المريض وحده يكتفي بطبق واحد ويتناول صنفا مخصوصا، لأن بقية الأصناف لا تلائمه، لأنه غير قادر على هضمها، فإن تناول بعضها اعتلّ.

         إن الشعر الحديث كائن ثائر متمرّد ضدّ هيمنة سلطة الشعر القديم، يأبى الخضوع، ويبتكر لنفسه وسائل دفاعه ويحقق التجاوز، ولكنّنا لن نصفّق له لمجرّد أنّه ثائر رافض متجاوز لهيمنة السلطان، قاطع مع الماضي، متنكّر للقديم، بل سنسأله التبشير بمرحلة جديدة تكسر حواجز النمطية القديمة وتقطع طريق النكوص لتفتح لنا أفقا رحبا وتهيئ واقعا جديدا يصبح فيه النص كائنا حديثا متجدّدا مستقلاّ لا يقتات على فتات موائد القديم ولا يشحذ أسلافه ولا يتمسّح على العتبات ذليلا. وفي الحقيقة، فإن القصيدة الحديثة ليست مجرّد ثوب جديد يساير الموضة ويكسو جسما قديما، بل هي جسم جديد لا يناسبه الثوب القديم ما أوجب أن يفصّل لنفسه لباسا مختلفا بمقاسات جديدة.

      إن فعل الكتابة من أرقى الأفعال التي يأتيها الإنسان كي يكون إنسانا، والكتابة تختمر داخل الذات وتخرج للناس يمتلكونها بالمشاع فإذا هي فوق الاندثار إن كانت جيّدة وفوق المصادرة ما حققت الإبداع، ولكن فعل الإخراج يحتاج مكابدة وعناء شديدا، وليست الموهبة إلا ما نما في الذات في أولى خطوات انبنائها، بل إن الرغبة في الكتابة شرط، وهي ليست مستقلة عن ذلك الانبناء المعقّد الذي سبق ذكره، وهي إلى ذلك تُدْرَكُ في مستوى تلك اللحظة التي يخصب فيها الانفعال حتى يختفي أو يتخفّى خلف ضرب من التأمّل. ولقد رأيت الشاعرة قادرة على القول متمكنة من اللغة معجما وسياقا مسيطرة على الصورة فاعلة في المحتوى ممّا تعرض نصوصها.

      كل هذه الأفكار خامرتني وأنا أتواصل مع نصوص “معلقة على حبل التمرّد” للشاعرة فاطمة سعد الله وهي “تشعل شمعة في وجه الريح” ، وتبني “قبّة مرصّعة بالقصائد”، وتبذر “كلمات ملونة”، وتجني ” فاكهة الحروف” في حزمة جديدة من قصائد تقدمها للقارئ تحت عنوان (قصائد معلقة على حبل التمرد) لتمنح بها لنفسها تأشيرة الخوض في هذا النمط الجديد المُحْدَثِ من الشعر الذي يسمّونه قصيدة النثر – وإن كانت التسمية لا تعنيني- لأن ما يهمّني حقا هو ما يوفّر هذا الجنس من الكتابة من رؤى وما يفتحه للقارئ من آفاق جديدة كي يرحل في أقاليم اللغة ويغوص في بحار المعاني وما يهيّئه له ذلك من متعة ورؤيا جديدة في علاقته بالطبيعة والإنسان والكون والأشياء المحيطة به، أيْ علاقته بما حوله ومن حوله.

        لما تواصلت مع كتابات فاطمة سعد الله وجدتني إزاء شاعرة ناضجة على المستويين الحياتي والإبداعي وألْـفَـيْـتُـني بين النصوص حيال حديقة غنّاء زرعتها أنامل بارعة بذوق الأنثى وحرصها على الإتقان في انجاز مشروع تبدعه. كل قصيدة شجرة مزهرة وكل كلمة  زهرة مكتملة وكل حرف كائن نابض خافق بحسّ وجداني شفّاف رغم وخز الأشواك وآلام الجراح والكدمات الناتجة عن الاصطدام بصلابة الواقع المرير أحيانا.

تقول الشاعرة:

                أيتها القصيدة انفتحي

                اسكني بين تصدعات الجبل

                وامتداد الصحراء

                 أنا منك وإليك أعود

القصيدة عند فاطمة سعد الله عشبة طرية بين الصخور، ولكن الأعشاب تنمو في صلد الصخر وتَـنْـفُذُ جذورها إلى الأعماق طلبا لأسباب الحياة فلا تخذلها الحياة، وإذا هي “خضراء كورق الحناء… سنبلة على وشك النضج ذهبية… دانية القطاف…” ولكن الشعر عندها ليس بذخا برجوازيا ولا هو ترف عاطفي. إنه مكابدة ومعاناة وعناء السائر حافيا على الحصى والأشواك والمسامير وشظايا الزجاج، ويمتد جدار الذاكرة مشحونا

                                  بالصقيع

                                  وملح العيون

                                  وكل الجروح

                                  يتصدّع الصبر… فلا صبر

 

     ساءلت نصوص الشاعرة، فرأيتها انزياحية ذات عروج تراود الأحلام وتنتعل الرمضاء زمن القيظ وتفترش الجليد في فصول القرّ لتعزف نغما في مقام الشجن تردّدا بين الألم والأمل، وإنّ لحظة الكتابة الشعرية ألَمُ مخاضٍ وأمل ولادة، والشعر بناء تحدّيا للخراب وخلق لإعدام العدم وإبادة الفناء، طلب الحياة في مواجهة الموت (قصيدة “قسما” نموذجا)

                               قسما بالحقل والسنابل

                               وتغريدة الفجر في حناجر البلابل

                               قسما بحرارة النبض

                               أن أخنق الخوف الراكض في أوردتي

هكذا يتبدّى الشعر رفضا وتمرّدا وعصيانا، رفضا للعجز طلبا للفعل والانجاز سعيا إلى التحرّر والانعتاق وتجاوزا للسائد المألوف رغبة في التجديد والاختلاف، وتلك تأشيرة الشعر الحديث للتجاوز.

تقول الشاعرة:

                 سينبت الرفض والعصيان

                  سأرسم وطنا

                  يلملم شظايا الحنين

                  يفتّش في حويصلة الرياح

                 عن ذرّة أنين

                  بذرتها عند أعالي الجبال

                 عن ورقة خضراء

                 عن حرف يكتب المستحيل

وقد تعمد الشاعرة إلى القصّ في الشعر. فإذا السرد قوام ينهض على الأفعال ووصف الأحوال في الثابت والمتحول من وجوه الحياة اليومية إذ تقول في نص “حلم أمي”

 

                   مذ كنت طفلة

                  رأيت أمي تخبز الأحلام

                  ………….

                  والأمنيات تنتظر

                   …………

                أحلام أمي فاكهة تتدلّى      

وهل الشعر إلا حكاية تُرْوى وتخيل مشحون وقاموس من اللغة ثريّ وصور تؤسّس للنص أبعاده باعتماد التلميح بدل التصريح والإضمار عوض الإظهار، وإنه لمن آيات الإبداع في القول وإتقان الصناعة وذاك من دواعي الشعر ولا ريب.

      هذا بعض قول أبثّه عجلا بعضَ رأي في ملاحظات عابرة لا تطمح أن تستوفي الإلمام وتفي النصوص حقها، إنما هو مرور سريع، وبعض انطباع انجلت عنه مصافحتي لمجموعة نصوص علقتها صاحبتها على “حبل التمرد”، عنوان ذو دلالات مفتوحة يشير لك إلى باب الدخول ولا يسلمك المفتاح فليس لك بدّ إذن من أن تصنع مفتاحك بنفسك للدخول إلى عالم فاطمة الشعري وترتاد فيه تخوما جديدة … ولا يفوتني أن أحييَ في هذه المرأة إخلاصها للشعر وإصرارها على التحدّي ومكابدتها وإيمانها بقدراتها دون غرور ووفائها لعلاقة مع القلم حميمة وهي توشّح النثر شعرا أو الشعر نثرا، لا فرق ما دامت الصورة حاضرة والإحالات كثيفة والنسق الإيقاعي مضمّنا واللغة أنيقة والإبداع مضمونا… سَمِّهِ ما شئت، نثرا أو شعرا، فلن تتخلّص معه من فتنة القول ولن تكون محايدا تُجاه نصّ آسر شكلا ومضمونا.

 

 

 

 

 

 

كلمة أخيرة إلى فاطمة سعد الله

       الشعر معراج الروح، فاعرجي في ملكوته الشاسع، واخترقي سجف الليل وارفعي لك راية الإبداع، وكوني دوما بَوّاحَةً بالقول، لا تصمتي، وعلقي قصائدك على حبل التمرد وتمرّدي، ولا تنكري نعمة الله عليك إذ اصطفاك شاعرة بكل هذا الألق، وهذه الروح الشفافة… وإني لأعلم دون ريب ما تكابدين من قلق موجع وأنت تقدّين من روحك حروف القصيد، فوحدهم الشعراء يتلذّذون آلامهم ساعة انبجاس الفكرة من أعماق الروح حين انبثاق النص يسعى أن يكون حارا، متوثّبا، نابضا بالحياة كأروع ما يكون… لحظات المكابدة وآلام الجراح يعقبها تنفس الصعداء حين إزاحة الحِمل الثقيل، متعة المزارع يرى أغراسه وقد أينعت فاكتملت وطاب الجني، نشوة النحّات يفرغ من آخر اللمسات في صنع تمثال المرمر وقد استوى، فيلقي بإزميله ماسحا عرقه وهو يرنو إلى خلقه في أروع صورة مكتملة للخلق يوشك أن ينطق…

      هذا هو الشعر يا سيدتي، نار أجّاجة تثـقّـف سيف الكلام، والشاعر فارس أو لا يكون وإنما دون صهوة الشعر مصاعب ومتاعب…

       على هذا النحو أرى الشعر نارا مقدسة بها نختبر أصالة المعادن، ولا بد أن تبقى وفية للشعر فإنّ:

               كــل الرفـاق تــآمـروا وتــنـكّروا                 إلا القـصيــدة أشــرعــت أبوابــها

               عانقت شطر الليل نبض حروفها                 وسجدت عند الصبح في محرابـها

 

****

من نصوص المجموعة نقرأ:

1

لأنّهنّ يكْرهْن الخِداعَ،،

مَزَّقْن سَتائِرَ الظلامِ

مشَتْ أقْدامُهُنَّ حافِيةً  على الزُّجاجِ

نَزَفْنَ..

نَزَفْنَ..

حتّى آخرِ قَطْرَةٍ للتَّصْفِيةِ ..

لأنّهنّ يعْشقْن  النُّورَ ،تجَرَّدْنَ  مِنْ عَبَاءَاتِ الظِّلِّ

اِسْتحْمَمْنَ في غُدْرَانِ الشَّمْسِ

تنَشَّفْنَ بأوْراقِ التُّوتِ

في حَفْلَةِ الرَّقْصِ التَّنكُّريَّةِ

 

 

   2

نزَلَتْ مُوسىقى السّماء حُوريّةً بِألْفِ جناجٍ

شفّافَةً..

عَسَليَّةَ العيْنيْن..

مُخْمليَّةَ النّغَمَاتِ

تُفْصِحُ بألْفِ بلاغَةٍ

تَغْزِلُ مِنَ البَهَاءِ  غِلالَةً مِنْ ريشٍ وشوْقٍ

عُرْبُونَ تناغُمٍ و وَفَاءٍ

 

 

3

لَمْ يُدَقَّ طَبْلٌ ولا نَطَقَ مزْمارٌ

كانَ الرَّقْصُ نَبْضًا في القُلوبِ

وهمْسًا في مسامِّ الرّيْحانِ

كان رفيفُ الأجْنحةِ ..

في بياضِ الثلْجِ

بَناتُ الشَّمْسِ يَعْشَقْنَ العُروجَ

يجْدِلْنَ ضَفَائرَهُنَّ كلَّ صباحٍ

مدارِجَ ارْتقاءٍ

ينْضحْنها بماءٍ وحنّاءٍ

يَنْطَلِقْنَ حَمَاماتٍ زَاجِلةً

تَرْتَوِي…

منْ مَناهِلِ الِارْتِقَاءِ والاِنْصِهَارِ

***

 

 

بسم الله

 

في قاعِ بئرٍ

طفْلٌ يتكوّرُ على نفْسه

في رُكْنٍ قصيٍّ ..بعيدًا عن الأنا

عن ال”هم”.

ضبابٌ بلا لوْنٍ ينسدلُ سميكا

بيْن بيْن..

العزْلةُ تنْسُجُ ستائرَ الخوْف

والابتعاد

          والنأيِ

                  والاحْتمَاءِ

                     الْ

             اِحْ

     تِ

مَاءِ

لا صَوْتَ يصِلُهُ سوى ارْتعاشةِ “الأنا”

لا صوْتَ

          سوى

                 ارْتعاشةِ

                         الأنا.

بئرُ التوحُّدِ تجرّه إلى القاعِ

 

ودوّاماتُ الصّمْتِ تُغْري بالغرق

جُدْرانٌ البيْتِ رماديّةٌ

باردة

مقطّبةُ الجبين

الصمتُ بئرٌيهْدرُ في قلْبها التيه

والضياع

وهو ريشة في بؤرة التيه والضياع

ريشةٌ

       في

            بؤرةِ

                 التيه

             ال

         تي

ه

والضياع

تناديه الغيبوبة أنْ تعالَ

لا أحدَ يمدّ حبْلَ الانتشال

وحدها الأمُّ..

وحدها تكفُرُ باليأس والمستحيل

وحدهاالأمُّ..

وحدها تؤمن بالحبّ دلْوَ نجاة

حبْل رجوع

عروة وثقى تشدُّ الدلْوَ إلى حبل العودة

من بعيد

 

من بئر التوحُّد إلى السطح

إلى

    السطح

           إلى

              السطح.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى