الفن ونظرية المُثُل

د. خضر محجز | فلسطين

الأشياء عند أفلاطون لها أصل خالد، موجود في العالم الأصلي، العالم غير الحسي. فالإنسان كان هناك في أصله.. المقصود الإنسان المثالي، الإنسان الكامل، الإنسان الذي في السماء، الذي لم يتلوث بالأرض؛ ذلك أن للأرض ملوثاتها.

ليس الإنسان فحسب، بل كل شيء هنا كان هناك أصله. لكن الإنسان وحده من بين الأشياء هو من يحن إلى أصله. فكيف ذلك؟

ثمة شيء في داخل الإنسان، شعور مبهم ـ ربما كان هو ما سيسميه علم النفس من بعدُ باللاشعور ــ شيء يتوق به نحو العودة إلى البيت الأول.. وإلى أن يعود، فهو يقارن كل شيء هنا بما كان عليه هناك. وهذا هو أصل نظرية الجمال لدى أفلاطون.

هل يمكن مقارنة هذا الكلام الأفلاطوني بما يقرب من توق الولي الممض للخروج من هنا والرجوع إلى الله؟ هل يمكن أن يكون قوله تعالى :”يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك” إشارة إلى شيء قريب من هذا؟ من يعلم؟ 

إذن فالروح ـ عند أفلاطون ـ تنشد العودة إلى موطنها الأصلي، في السماء.

ورغم أنها الآن موجودة في هذا العالم الحسي، في الجسم البشري الأرضي، إلا أن فطرة هذا الجسم مغروز فيها ــ بطريقة ما ــ بقايا من صور ذلك العالم الجميل، هي الأصل والمرجع الذي يقارن به كل ما يراه في عالم الواقع. فكلما واجه في هذا العالم جمالاً، اعتبرته روحه صورة باهتة عن الأصل في عالم المثال.

من هنا فإن كل جميل في الطبيعة ـ في نظر أفلاطون ـ هو صورة باهتة عن الأصل في السماء. أما الفن فهو صورة أخرى عن صورة الطبيعة. إن ما ينتجه الإنسان من فنون هو ــ في نظر أفلاطون ــ محاكاة لما هو هنا. ثم إن ما هو هنا محاكاة لما هو هناك.

وعلى سبيل المثال، لو تناولنا تمثال إلٰهة الجمال أفروديت (Aphrodite)، الذي نحته الفنان بركستليز (Praxiteles)؛ فسنرى التسلسل يحدث بالصورة التالية:

لقد خُلقت، على الأرض في أثينا، فتاة في منتهى الجمال اسمها فريني (Phryne). وفريني هذه غانية كان جمالها حديث أثينا كلها، في القرن الرابع قبل الميلاد: وذلك لأنها لم تكن تظهر أمام الناس إلا وهي محجبة، من رأسها إلى قدمها، ولكنها في عيدي إلوزيا وبسدونيا تخلع ثيابها أمام الناس كلهم، وتسدل شعرها على جسمها، وتنزل البحر لتستحم. كأنها تجعل ذلك زكاة جمالها.

ومن دون الناس جميعاً عشقت فريني النحات بركستيليز، ووقفت أمامه لينحت على صورتها أفروديت.

وحين اتهمها أحد الحاسدين بالإلحاد، ووقفت أمام المحكمة، وقف الخطيب الشهير هيـﭘريدس يدافع عنها، دون أن يستخدم بلاغته فحسب، بل جمالها كذلك، إذ شق ـ أمام المحكمة ـ جلبابها، فكشف عن صدرها، فنظر القضاة إلى جمالها، وبرأوها من تهمة الإلحاد في الدين.

إذن فقد خُلقت فريني هذه على مثال الجمال الأعلى في السماء. وإن مثال الجمال الأعلى في السماء هو أفروديت الإلٰهة الحقيقة في السماء. وإن لفريني هنا أصلاً هناك، هو الأجمل. ولكن بركستليز لا يراه، بل يرى فريني وحدها، إنه يرى فيها صورة أفروديت الأرضية.

الآن فريني على الأرض، يتمتع بجمالها سكان أثينا، وتقف عارية أمام معشوقها النحات بركستليز، كنموذج يتأمله ويستخلص منه صورة ينحتها من الحجر، لإلٰهة الجمال أفروديت، التي يعبدها اليونانيون.

إن صورة الحجر التي صورها بركستليز، من خلال تأمله في جسم فريني العاري، هي نسخة عن النسخة، وليست نسخة عن الأصل.

هكذا يرى أفلاطون الفن وفق نظريته في عالم المثل.

لكننا يمكن أن نكتشف، لدى تلميذه أرسطو، نظرية أرقى عن الجمال والفن، تخالف نظرية أستاذه:

فإذا كان الفن لدى أفلاطون نسخة عن النسخة، فإنه لدى أرسطو نسخة عن الأصل. وإن المحاكاة الفظة تنتفي عن نظرية أرسطو حين نتأملها جيداً.

صحيح أن الفن عند أرسطو ـ كما هو عند أفلاطون ـ محاكاة، لكنه محاكاة للأصل الذي في السماء.

ربما كان أرسطو لا يؤمن بنظرية المُثُل لدى أستاذه، لكنه يؤمن بالفعل بأن ثمة شيئاً كامناً في الطبيعة والموجودات، هو روحها الداخلي، الذي يسميه الهيولىٰ.

ولأنني لن أتكلم عن الهيولىٰ هنا، لصعوبته على القراء، فسوف أقول: الروح الداخلية للشيء.

إذن فالفن عند أرسطو محاكاة، لكنه محاكاة للأصل، للروح الداخلي للأشياء، وليس لصورتها الخارجية. ولئن شئنا مقارنة نظرية أرسطو بنظرية أستاذه، لقلنا: إن الفن عند أرسطو محاكاة لما هو هناك. الفن يقوم بصناعة نسخة عن الأصل، لا عن الطبيعة، كما يرى أفلاطون.

إن ما يقصده أرسطو هو أن الفنان لا يحاكي الموضوع الحسي، بل يحاكي المثال.

وهكذا فإن الفن ليس نسخةً ثالثة لنسخةٍ ثانية منسوخة عن المثال الأفلاطوني الأول، بل إن الفن لدى أرسطو هو نسخة عن الأصل. إن موضوع الفن ـ لدى أرسطو ـ ليس هو هذا الشيء الجزئي أو ذاك، بل هو الشكل الذي يظهر نفسه في الجزئي.

إن المثال موجود داخل الشكل الأرضي. يمكن تشبيه المثال بروح خفي عميق تشكله الصورة الخارجية للعين، في الفن.

والفن ـ كمحاكاة ـ عند أرسطو، يضفي على الطبيعة طابعاً مثالياً، أي أنه يرى المثال فيها. وهكذا فإن النحات لا يصور الإنسان الفرد، بل نمط الإنسان، كمال هذا النوع، المثال الكامل في السماء.

لقد رأى بركستليز المثال السماوي في جسد فريني، فصوره. ويبدو أن قضاة أثينا أنفسهم رأوا هذا السماوي في الأرضي، حين شق المحامي ثوبها عن صدرها، فحكموا ببراءتها من تهمة الإلحاد. إذ لا يمكن اتهام الإلٰهة أفروديت بالإلحاد.

يمكن تصورهم ـ بدينهم الشعبي ـ وهم يحدقون في صدر فريني، ولسان حالهم يقول: تلكم هي أفروديت السماوية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. عاجل وهام إلى هيئة التحرير
    كونوا عادلين ومنصفين في نشر مقالات الكتاب والكاتبات
    تنشرون أكثر من أربع مقالات لكاتب واحد في أقل من أسبوع وتجحفون بحق البقية بشكل واضح وفاضح
    احترموا أنفسكم وخليكوا عادلين ومنصفين في النشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى