توفيق زياد.. وفي الليلةِ الظلماءِ يُفْتَقَدُ البدرُ

سميح محسن | شاعر فلسطيني

 

كان آخرُ لقاءٍ جمعني به قبلَ أسبوعينِ تقريباً من رحيلِه في مقرِ جريدةِ (الطليعةِ) المقدسيةِ في الشيخ جرّاح، في مدينة القدسِ الشرقيةِ المحتلة، وذلك في مكتبِ رئيسِ تحريرِها آنذاك، الكاتبِ الكبير الرفيق محمود شقير.

اعتادَ توفيق زياد أن (يَمرَّ) علينا في (الطليعةِ) أثناءَ حضورِه إلى مدينةِ القدس. وما يكادُ يدخلُ من باب مقرّها، ويمشي في ممراتِها، إلا وعَلَتْ ضحكاتُهُ، و(جلجَلَ) صوتُهُ، ونَثَرَ خفةَ ظلّهِ في أرجاءِ المكانِ، ولم نكن نملكُ من خيارٍ سوى أن نكونَ حيثُ يكون.

في ذلك اللقاءِ حدّثنا عَن مقابلةٍ صحفيةٍ أُجريت معه، وكأنّه بذلك يريدُ أنْ يحمّلَنا (أمانةً) ما. قالَ إنّ الصحفي الذي أجرى معه المقابلةَ سألَهُ: “لو عادَ بكَ الزّمنُ إلى الوراء، هل ستكونُ اختياراتُكَ الأيديولوجيةِ والسياسيةِ هي … هي”؛ فأجابَه ـ كما قال لنا، وضحك ـ (بالتأكيد ستكونُ هي نفسها).

توفيق زياد شخصيةٌ لا تُنسى حتى أقولَ بأنني تذكرتُهُ اليومَ لأنّ الذكرى السادسة والعشرين على رحيلِهِ المأساويّ تحلُ اليوم (الأحد الموافق الخامس من تموز/يوليو)؛ ولكنّني أشيرُ إلى الذكرى نفسِها، ومن زاويةِ ما نردّده دائماً في الساعاتِ الحالكاتِ: {وفي الليلةِ الظلماءِ يُفْتَقَدُ البدرُ}.

كانَ توفيق زياد واحداً من جيلِ العظماءِ الذينَ فُرِضَ عليهم أنْ يقودوا شعبَنا في الداخلِ الفلسطينيّ بعدَ النكبةِ التي حّلت بنا. ولكلِ مَنْ يريدُ أن (يزايد) على تلك التجربةِ النضاليةِ الفذّةِ، والصلبةِ، والرائدةِ، وعلى قادتِها ومفكريها وجنودِها، عليه أن يطرحَ على نفسِهِ سؤالاً واحداً: لو لم يكن هؤلاء قد تقدموا الصفوفَ وقادوا، وناضلوا، وسُجِنوا، وسُحِلوا، فَمَن كانَ قد حافظَ على هويتِنا الوطنيةِ الفلسطينية ؟!! ألا يكفي هذا وحده في تلكَ المرحلةِ التي تعرض فيها شعبُنا للاقتلاعِ والاجتثاث ؟!!

لهؤلاءِ يجبُ أن ننحني احتراماً وإجلالاً وتقديراً، وإن كانَ شاعرٌ كتوفيق زياد سيرفضُ قطعاً للفلسطيني أن ينحني، وهو القائلُ مخاطباً خيرةَ أبناءِ هذا الشعبِ: {{… أبوسُ الأرضَ تحتَ نعالِكم، وأقولُ أفديكم}} في وقتٍ يبوسُ فيه كتّابٌ ومفكرون أيادي السلطان!! ولم يكن توفيق زياد سلطاناً في يومٍ من الأيامِ، وإنما كانَ قائداً حقيقياً صافياً، نقيّاً، شفافاً، ومقداماً يتقدمُ صفوفَ أبناءِ شعبِهِ في كلِ مواقعِ النزالِ.

لم يكن توفيق زياد شاعرَ تيارٍ سياسيّ، أو شاعرَ أيديولوجيةٍ محددةٍ انتمى إليها، وإنما كان شاعراً فلسطينياً صرفاً اختارَ تياراً سياسيّاً، وأيديولوجيةً بعينِها. ولقيمةِ هذا الرجلِ مستوياتٌ متعددةٌ، فهو المناضلُ السياسيّ، والقائدُ الميدانيُّ في كلِ مواقعِ النضالِ، والشاعرُ التقدميُّ الإنسانيّ، والشوكةُ في حلقِ من سرقوا البلادَ، ولم يستطيعوا أن يقهروا العبادَ، وهو الناصرةُ، وما أدراكَ ما الناصرة؟!!

في كلماتِ التَذّكِّرِ هذه، التي لن تفي الرجلَ حتى بعضَ حقّهِ (كونها لا تعدو نقطةَ ماءٍ في محيطِهِ الشاسع) أتذكرُ قولاً للكاتبِ والناقدِ الفلسطيني الراحل صبحي شحروري. فبعدَ فجيعتِنا بوفاةِ توفيق زياد، كنتُ أعدُ تقريراً لنشرِه في جريدة (الطليعةِ) المقدسية، فاتصلتُ بالصديق شحروري لأخذِ تصريحٍ صحفي منه حولَ الراحلِ، فاكتفى بالقولِ: (ماتَ الرجلُ ويدُه نظيفة). وبعد ما شاهدناه وعشناه منذ تلك السنة وحتى يومِنا هذا، هل سنجدُ وصفاً أعظمَ من هذا الوصف؟!!

في هذه الكلماتِ لم أطمحْ سوى للتذكيرِ بمناسبةِ رحيل توفيق زياد، لأنّ الكتابةَ عنه كإنسان، وعنه كمناضلٍ وطني تقدمي، وعنه كشاعرٍ أرسى مع أبناءِ جيلِهِ قيمةً جديدةً لمفهومِ شعرِ المقاومةِ على المستوى العربي، ومن ثمة العالمي، وعنه كقائدٍ شعبيّ، وعنه كَبَنّاءٍ، تحتاجُ الكثيرَ الكثير.

وهنا أستحضر وصيتَه الشهيرة، عندما قال لنا: (ديروا بالكم على بعض)، وكأنّه في هذه الوصية كان نبياً يستشرف المستقبل. نحن، تلاميذك، أيّها القائد، لا نزال نحافظ على وصيتك، وكأننا كالقابضين على الجمر.

لروحك أيّها المعلمُ، والقائدُ الفذُّ السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى