الغجرية والشيخ.. قصة قصيرة

رزق البرمبالي | مصر

 هبطت بليلٍ والناس نيام، فلم يرها أحد، سَكَنتّ الدار العتيقة، القابعة بمفردها في أطراف البلدة، دار مهجورة منذ ما يربو فوق الأربعين عاماً، مبنية بطوب القمائن الأحمر وطمي النيل، حوائطها عملاقة ومتينة، شبابيكها مرتفعة كالأبواب، مساحتها فسيحة تحتاج إلى فارس وخيل رَمَاح، تلك الدار التي غنت فيها يوماً أم كلثوم “وصفولي الصبر”، وسط حشد لفيف من الباشوات وعِلّيَة القوم، نُسِجَتّ حولها الأساطير بعناية فائقة، يسكنها الأقرع أبو رجل مسلوخة وزوجته العامشة التي يخرج من عينيها نار تحرق من تطاله عندما تغضب، وأول من أحرقته.. كان زوجها، غضبت عليه ذات مرة، لما عَيَرها بعمشها، ومن قبل لم تكن تدري أن لديها تلك القوة النارية الجبارة، وكانت تأتيها في الليل فقط، تضئ لها الظلام من بعد المغرب وحتى شروق الشمس، كنا ونحن صغار نخاف الخروج من منازلنا بعد المغرب، حتى لا نغضبها وتحرقنا بنار عينيها، ونلعنها لأنها كانت تحرمنا من لعبة الغميضة في الليالي القمرية وخاصة في ليالي الصيف، وكانت “العامشة” تهديداً وعقاباً لمن يتشاقى أو يتكاسل عن أداء واجباته المدرسية، ويعترض أو يرفض تناول الطعام أو النوم مبكراً، سنأتي لك بالعامشة، سنلقيك للعامشة…إلخ،  فتاة غجرية ذات جمال يسحر العيون ويُذْهَب بالألباب، وجسد أنثى تكاد تفاصيله تستنطق الجماد…جسد ناري تفور منه رائحة الأنوثة والحياة المفعمة بالحيوية والنشاط والرغبة، وعادت الحكايات من جديد عن البيت المهجور وساكنته الجديدة، الغجرية الشابة، تُروَىَ بطرق مختلفة عبر ألسنة الكبار والصغار، فمن قائل إنها تشبه جنية البحر حيث شعرها الأسود الناعم ينسدل أسفل خصرها الفتان، ومن يعتقد أنها حفيدة العامشة، فلم يُسمع لها صَوت أو حركة كما كانت جدتها، ومنهم من يقل أن الشيخ “سعيد عبد الدايم” هو من جاء بها قبيل فجر أحد الليالي أودعها الدار، ثم فتح المسجد وأذن، وأقام بالناس الصلاة!

ومنهم من يدعي رؤيتها تستحم في نهر النيل وتخرج عارية كما ولدتها أمها من الماء عبر السلم الرخامي الأبيض، ومن ثم تدلف إلى الدار من الباب الخلفي عبر أطلال حديقة كانت في يوم ما غَنَّاء بالزهور والرياحين وأشجار الفاكهة، ذاعت الأخبار وانتشرت ودخلت كل بيت وأصبحت على كل لسان، غير أن إقحام الشيخ سعيد “مؤذن وإمام المسجد في تلك الحكاوي، أعطي لها مزيداً من الأهمية والتشويق والإثارة لدى الرجال والنساء والكبير والصغير على حدٍ سواء، فأصبحت قصة الشيخ والغجرية وجبة دسمة في المقاهي والمجالس، في الأسواق وعلى قارعة الطرقات، إلا في بيت الشيخ، فلم تصل إليه الأخبار بعد!!

 في خطبة الجمعة أثناء وقوفه منتصباً على أخر درجة من درجات المنبر.. يخطب في الناس (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)

يزداد الهمس والغمز واللمز بين المصلين، فيدور ببصره عليهم جميعاً، ويتعجب أيما تعجب، ويحذرهم من عدم الإنصات للخطيب، والوقوع في اللغو، وبالتالي بطلان صلاتهم، بعد انتهاء الخطبة يسرع الشيخ إلى داره، يخرج بعدها بنصف ساعة وفي يده شنطة منتفخة، يسير بخطى مسرعة، ويبدو أنه في عجلة من أمره، فاللهفة تكاد أن تحرق قلبه، يلتفت يمنه ويسره، يسلك طرق عرجاء يميناً وشمالاً، يلف الشال الأبيض المتدلي على خديه الممتلئتين حول وجهه، فلا يظهر إلا عينين ضيقتين كعيني ذئب، يقف ويرنو بطرف بصره إلى الخلف، هل هناك من يتبعه أو يراه؟، يطمئن ويواصل سيره، خطوات قلائل تفصله عن تلك المليحة القد، التي سلبته لُبه وأفقدته صوابه ورشده، مسكين هذا الشيخ، فهو لا يدري ما دُبر له بليل!

فعَما قليل سَيُضبط بالجرم المشهود، وسينفذ فيه الحكم على الفور، ليس وحده بل هو وعشيقته الغجرية اللعوب، لكنهم لن يطبقوا معه شرع الله الذي تعلموه منه، لن يرجموه، بل سيحرقونه حرقاً ومعه الغجرية!!!

هذا ما اتفق عليه الشباب بالأمس، هم قريبين منه جداً، عيونهم ترصده من خلال حقل الذرة بالناحية الشرقية للدار، وهناك كوة بالجدار العريض، سيشاهدون منها كل شئ، بجواره شباك بدون مزلاج، سيهجمون عليه هجمة رجل واحد، سيطهرون البلدة من رجسه، ولن يعتلي منبرهم بعد اليوم إلا طاهر، ها هو الشيخ بشحمه ولحمه وليس “أسطورة” يصل إلى حتفه، يدلف من باب الحديقة الخلفي، وهاهم يخرجون من خطوط الذرة.. على أطراف أصابعهم يتحركون..، عيونهم تمر عبر الكوة وتتجول معه بالداخل.. هم يشاهدونه الآن، وكأنما ينظرون إلى شاشة كاميرات مراقبة، يضع الشنطة جانباً، يخلع جلبابه، يبدو أنه في عجلة من أمره!  يخلع الشال والطاقية الصوف فوق الجلباب، يفتح الشنطة التي جلبها معه.. يخرج منها دجاجة محمرة وارز وخضار.. وفاكهة، يبتسم الشباب.. سيأكل أولاً قبل النزال الوشيك، فلابد له من أن يتقوى ويتسلح للصبية الصغيرة الفتاكة، ذات القوة الضاربة، يدخل الغرفة ليأتي بها كي تشاركه طعامه، أو تطعمه بيدها والعكس، ينظر الشباب إلى بعضهم البعض في ذهول، فاغرين أفواههم وكأن على رؤوسهم الطير، اتسعت أعينهم، بدا العرق يتفصد من وجوههم، توقفت أنفاسهم، ما هذا؟!!

عقدت الصدمة ألسنتهم.. فقد خرج الشيخ من الغرفة وبصحبته عجوز ضريرة، جلس يطعمها بيده، ثم قام ووضع ملابسها في طست الغسيل وصب عليها الماء والصابون وشرع في الغسيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى