ما فوق الوهم والحقيقة العائمة

أ. م. د. سامي محمود إبراهيم | رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة الموصل – العراق

   ليس الخطر أن يكون هناك صراع بين الحق والباطل، فهذه سنة الحياة ونواميس الكون التي وجد عليها، ولكن الخطر أن يفقد الناس الاحساس بالفرق بين الحق والباطل. وعندما يسكت الحكماء يتكاثر الحمقى، وعندما يستقيل العقل تكثر الفوضى. وعندما يغيب الفجر يصير الليل نسرا يطارد نوارس السلام. غريب ما يقع في العالم اليوم! إلى هذا المستوى يتم الانحدار؟!

    ما بعد الحداثة هي في الحقيقة الحداثة السائلة التي يجب استيعابها لعلها آتية إلينا يوما ما. الحداثة مصطلح يحمل مدلول مخالف للتجديد، ومخالف للإتيان بجديد من جنس القديم، بمعنى أن قميصك الذي وقع عليه عطب، فالتجديد يعني أن تخيط محل العطب، لكن ممارسة الحداثة على القميص، تعني أن تلغي وجود القميص وما هو من جنسه على جسدك، وأن تأتي له بشيء حديث كليا. تماما هذا هو مفهوم الحداثة.

أن تلغي أول الأمر الدين والتقاليد التي تربط المجتمع، لأن الإتيان بالحديث كليا يتطلب إلغاء القديم كليا، فيتعين إلغاء حتى المجتمع بحد ذاته، تماما كما قالت مارغريت تاتشر ” لا يوجد شيء اسمه المجتمع” وبث روح الفردانية مكانه، فليس هنالك مجتمع عندما نريد أن نكون حداثيين، فالمجتمع شيء قديم، وإنما يوجد فقط أفراد.

هؤلاء الأفراد يجب أن يزيلوا عنهم الأفكار التي كانت موجودة داخل مسمى المجتمع، وأهم هذه الأفكار هي فكرة “الامر الناه” والوصاية، فليس هنالك آمر ناه، يعاقب من يخرج عن الصف، بمعنى ليس هنالك شخص ذو خبرة في الحياة هو من يوجهك كي لا تقع في الخطأ بل أنت الموجه، وأنت المجرب، وأنت المريد، وأنت المستطيع، وأنت المسؤول، كل هذا يصب في معنى خلع القيد والوصاية عن أي شخص او مرجع او فكرة ، تجربة أي شيء يروج في السوق، والسوق هنا لا يقتصر عن سوق السلع والخدمات، بل يدخل في مدلوله سوق القِيم، وسوق الأفكار، وسوق ما تهوى الانفس، معيار الصواب والخطأ لم يعد الأمر والنهي، ولم يعد تلك القيم والنظم الشرعية، ولا النص، بل أنت من تحدد، لأنك الآن لم تعد مساهما في تشكيل مجتمعهم، بل أنت عبارة عن فرد، نتائج أفعالك لا يتحملها معك الاخرون.

يوجد لدى الفرد حالة نبه عليها زيجمونت باومان، وهي أنه على الدوام يعيش حالة لا يقين، فهو بدون معيار، بدون أخ أكبر، بدون مجتمع، بدون دين وتقاليد، كل ما يدخل السوق العام ويقبل الاستهلاك فالفرد لا يملك قيدا أو معيارا يحدد له هل يستهلكه أو أن يمتنع عنه، بل هو في حالة لا يقين، في حالة شك، سيقبل عليه أو يتركه؟ سيحقق له الكمال أم لا؟ سيبتاع هذا الفرد تلك السلعة، وهذه القيمة، بغير اعتبار لكونها تمثل الحق أم الباطل، بل سيفعل ذلك متبعا لمقولة “المتعة خير من الحق”.

ويبقى الفرد باحثا بصورة دائمة عن كمال إنساني خلال رحلة الاستهلاك هذه، السلع والقيم في هذا السوق الذي تتطلبه ميوعة الحداثة، فالسوق الرأسمالي متجددة باستمرار، وكل تجدد يشعر المستهلك بأن الكمال لم يتحقق، فما العمل؟ استهلاك أكثر، بحثا عن فرد أكمل، في هذه الطريق غير المنتهية ما دام السوق رأسماليا، وما دام الفرد فردانيا، وما دام الأخ الأكبر قد تمردنا عليه، يتحول الطلب على الحاجيات إلى طلب على الرغبات، فالفرداني يطلب ما يرغب به لأجل الكمال، لكن الكمال الذي هو تحقيق الكفاية والمتمثل في الرغبة بالضروريات، قد بات قديما، فالحداثة تطلب التحديث دوما، وبهذا يصير حتى المرغوب فيه والذي ليس ضروريا ولا من الحاجيات، يعتبر اليوم رفاهية وكماليات، لكن في الغد سيصير ضروريا، بمعنى أن التحديث المستمر للسلع الكمالية بين البارحة واليوم، قد جعل انتظار اصدار كماليات جديدة لتحل محل الكماليات القديمة ، التي حلت محل الضروريات في الأصل، سابقا على الحاجة لتلك الكماليات، فالناس تشتري أيفون لتحقق الكمال في هذا الباب، في الغد يصير الآيفون ضروريا، لا مجرد رفاهية أو كمالية، مع العلم بأن السنة المقبلة سيصدر أيفون جديد، سيصير انتظار صدوره ألذ وأمتع من الحاجة إليه وأسبق عليها، سيصير جنس التحديث في المنتج السلعي أو القيمي مستمرا لما لا نهاية، وسيبقى الانتظار والاستهلاك واللايقين بصحة التجربة في علاقة طردية مع هذا الإنتاج غير المتناهي. لعل فرنسا ستفرض عقوبة على الزواج في وقت لاحق، فتقنين الزنا بالتراضي في سن الـخامسة عشر عبارة عن سلعة يوجد عليها طلب تحقق الرفاهية، والمتعة لدى الأفراد، والمجتمع لا يوجد أصلا ليمنع ذلك، والمعيار قد ذهب مع الأخ الأكبر الناهي الآمر، والزنا بالتراضي في سن الـثامنة عشر بات تقليدا قديما، ونحن مهمتنا التحديث باستمرار، لا إنشاء تقاليد جديدة صلبة. والفرص في عالم ما بعد الحداثة شهية للغاية لأن الفرد بدون رقيب مع دعمه بالفكر الليبرالي التحرري وحمايته بمنظمة حقوق الإنسان الفرد؛ قد جعل تجريب تلك الفرص أمرا شهيا للغاية، نحن نجرب اليوم، ما جربناه اليوم صار في الغد تقليدا، يجب أن نتحرك لأجل الأحدث، نتسابق مع الكمال لكن ليس له نهاية، مرحلة القناعة لم تعد متوفرة، ذهبت مع المعيار، الآن يوجد مرحلة إدمان لكل ما سيجعلني الأكمل عن النسخة السابقة لي، وستصير الهوية مهمة متجددة، لا هبة، وهذا الإدمان لا يهمني إذا كان مدمرا لكل إمكانية مستقبلية للإشباع والارتواء. بل كما قال باومان: المجتمع الرأسمالي المتطور يلتزم بالتوسع المستمر في الإنتاج. ليس هنالك من يقدم لي يد العون، لأن التصدي للمتاعب من دون عون أو مساعد هو ما يفعله الجميع اليوم، هكذا يقول باومان.

بالتالي فعند شيوع الرأسمالية، وفقد المعيار، وتحرر الأفراد عن المجتمع والدين ، ستكون مواقف الأفراد متخذة على مسؤولياتهم الكاملة، من دون معرفة ضمنية بتبعات القرارات وعواقبها، مع انعدام تام للمعيارية، والقواعد، والأمر والنهي، سيواجه الأفراد أسوأ حالاتهم، لأن اليقين الذي كان يضمنه الروتين داخل المجتمع قد تم وأده، فالنماذج الروتينية التي تفرضها الضغوط الاجتماعية تعفي الناس من معاناة عدم اليقين المتجدد، فهذه النماذج الروتينية التي تتم بالرتابة والانتظام تعلم المرء كيف يسلك معظم وقته، وقلما يجد نفسه في موقف يخلو من معالم عبر الطريق.

لكن في حالة اللامعيارية، واللايقين؛ ليس لديك يقين بأنك لو شاهدت الإباحية بين رجل وامرأة اليوم، أنك بعد سنوات لن تشاهد مواد إباحية تعرض امرأة تضاجع حمارا أو كلبا، ستعرض تلك المواد على السوق، لأن المجتمع الرأسمالي دما يعرض يتوسع في الانتاج بدون ضوابط او قيود. والعالم داخل الحداثة السائلة كما يقول باومن بحاجة الى مثير اشد قوة وأكثر قابلية للتغير والتقلب. صحيح يوجد تطور علمي رهيب. لكننا وسط الحداثة السائلة نبحث عن اليقين عن الاستقرار. نبحث عن دواء يجعلنا قنوعين راضين متفائلين، نبحث عن من يشاركنا هموم الحياة هموم المسؤولية يحمل عنا حملنا الثقيل، الا نضيع في متاهة البحث عن الكمال، نحتاج الى بناء علاقات اجتماعية تواسينا وتعزينا في الحياة. نحتاج الى عمل يدوم مدة يمنحنا يقين بان العالم يحتاجنا. هذا المطلب الان ربما هو غير ممكن الان لان الحداثة همها استبدال كل ما هو قديم، همها الغاء الماضي، واليوم الحداثة نفسها تعد من القديم وبالتالي تم استبدالها بما بعد الحداثة، وهكذا يستمر الما بعد الى ما لا نهاية.

والتبرير الذي تقدمه ما بعد الحداثة على كل ذلك هو تعميم الحرية الفردية وازاحة سائر القيود الاخرى بما فيها سلطة الابوة والدين والقيم والاخلاق. كل هذا لتكون ليبراليا حرا فردانيا زبونا جيدا في سوق الرأسمالية المنتج باستمرار والى ما بعد البعد.

جاءت ما بعد الحداثة لتقويض الميتافيزيقا والمقولات المركزية التي هيمنت على الفكر، كاللغة، والهوية، والعقل.  وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب، وتقترن ما بعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية واللامعنى واللانظام.

لذلك يتميز فكر ما بعد الحداثة بقوة التحرر من قيود التمركز، والانفكاك عن التقليد وما هو متعارف عليه، وممارسة الاختلاف والتفكيك والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة البنية والانغلاق والتكامل، وتعرية الإيديولوجيات، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب الما بعديات المفتوحة.

يتفق الفلاسفة الالمان على أن مشروع الحداثة لم ينته بعد، حيث يواصل هذا المشروع سعيه لتحقيق أهدافه، حيث الدور الفعال لوسائل الإعلام. فكل شيء هو النص والصورة، إقناع المشاهد بكابوس من عالم الخيال العلمي او العالم الافتراضي، فهذا العالم هو بمنزلة استعارة أو مجاز عن حالة الواقع.

كما ترتبط ما بعد الحداثة بفلسفة التفكيك والتقويض، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت على الثقافة الغربية من أفلاطون إلى يومنا هذا. فهي موقف متشكك لجميع المعارف البشرية، وقد أثرت هذه المواقف على العديد من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني.

كما تعد ما بعد الحداثة عدمية تقوض أي معنى للنظام والسيطرة. حداثة سائلة بمنتهى السيولة. لذلك اعتمدت على التناص واللانظام واللاانسجام والنسبية، وإعادة النظر في الكثير من المسلمات التي تعارف عليها الفكر الانساني. ومن ثم، تزعزع ما بعد الحداثة جميع المفاهيم التقليدية المتعلقة باللغة والهوية.

هذا يعني ان نصوص ما بعد الحداثة لا تتقيد بالمعايير المنهجية، وليست ثمة قراءة واحدة للنص، بل قراءات مفتوحة. خاصة أن فكر ما بعد الحداثة جاء كرد فعل على المقولات التي تحيل على الهيمنة والسيطرة والاستلاب. كما استهدفت ما بعد الحداثة تعرية المؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في العالم، وتحتكر وسائل الإنتاج، وتمتلك المعرفة العلمية. كما عملت ما بعد الحداثة على انتقاد اللوغوس والمنطق عبر آليات التشكيك والتشتيت والتشريح والتفكيك.

لقد ظهرت ما بعد الحداثة في ظروف سياسية معقدة، وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخاصة في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسرح اللامعقول، وظهور الفلسفات اللاعقلانية كالسريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية، والعدمية. وقد كانت التفكيكية معبرا رئيسا للانتقال من مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة. ومن ثم، فقد كانت ما بعد الحداثة مفهوما مناقضا ومدلولا مضادا للحداثة. ولذلك، احتفلت ما بعد الحداثة بأنموذج التشظي والتشتيت واللاتقريرية كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بقوانين العقل والسببية والأنموذج الكوني، حاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلها الضرورات الروحية والتغيير المستمر، وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة. كما رفضت الفصل بين الحياة والفن واتخذت التأويل والتأويل المضاعف قاعدة ومنهج.

من يتأمل جوهر فلسفات ما بعد الحداثة، فإنه سيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات ما بعد الحداثة هي فلسفات لا تقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لا معقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.

وإذا كانت فلسفة الحداثة أو تيارات البنيوية والسيميائية تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى توحيد النصوص والخطابات، وتجميعها في بنيات كونية، وتجريدها في قواعد صورية عامة، من أجل خلق الانسجام والتشاكل، وتحقيق الكلية والعضوية الكونية، فإن فلسفات ما بعد الحداثة هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكلية. وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف واللانظام، وتفكيك ما هو منظم ومتعارف عليه.

كذلك رافقت ما بعد الحداثة تطور وسائل الإعلام، فلم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي، ومعرفة الحقيقة. لهذا نجد جيل دولوز يهتم بالصورة، ويعتبر العالم خداعا، كخداع السينما .

كما تتميز نصوص وخطابات ما بعد الحداثة بخاصية الغموض والإبهام والالتباس. بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة تأجيلا وتقويضا وتفكيكا. وبتعبير آخر، يغيب المعنى، ويتشتت عبثا في فلسفات ما بعد الحداثة.

وأخيرا تنكر فلسفات ما بعد الحداثة وجود حقيقة يقينية ثابتة، فنيتشه مثلا ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها. وجان بودريار الفيلسوف الفرنسي ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما يربط الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم. ومن ثم، فقد أدلى جان بوديريار بمجموعة من المفاهيم، كالحقيقة العائمة، وما فوق الحقيقة، والاهتمام بالخيال العلمي، والعناية بالعوالم الافتراضية غير المتحققة. ومن هنا، فقد انتقد العلاقة بين الدال والمدلول عند فرديناند دوسوسير، حيث أنكر كجاك ديريدا وجود معنى واضح، بل قال بالمعنى المغيب، حيث لا يمكن لأحد أن يعيش أي تجربة، وأصبح للعبث لهجة واضحة تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية.

وهو القائل إن حرب الخليج لم تكن حقيقية، بل كانت حدثا إعلاميا، إنها حرب دون أعراض الحرب. وهذا ما قاد العديد للشك في أن بودريار نفسه قد ابتعد إلى ما فوق الحقيقة، ولم يعد يسكن جسدا دنيويا. وعليه، فقد دفعه مفهوم ما فوق الحقيقة إلى الاهتمام بالعوالم التخييلية والافتراضية. وكما سبق الإشارة إليه وجدت رؤيته للعالم أصداء في السينما، وخصوصا في ذلك النوع من الأفلام الذي يصبح فيه الواقع الافتراضي غير مميز عن العالم الحقيقي.

ونستدعي أيضا من رواد فلسفة ما بعد الحداثة المفكر الفرنسي جان ليوتار، الذي أنكر الحقيقة مثل: نيتشه، فالمعرفة برايه لا يمكنها أن تقدم الحقيقة؛ لأنها تعتمد على ألاعيب اللغة التي هي دائما ذات صلة بسياقات محددة. وأهم ما يطرحه جان فرانسوا ليوتار في إطار ما بعد الحداثة هو التحرر من الالتزام بالقواعد المنهجية والمعايير المسبقة.

ويعد جاك ديريدا كذلك من أهم فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث اهتم بتفكيك الثقافة الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشريح، بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة. ومن ثم، فقد ثار دريدا على مجموعة من المقولات البنيوية كالمدلول والصوت والنظام والبنية، وغيرها من المفاهيم، ودعا إلى تعويض الصوت بالكتابة ، وأن المعنى لا يبنى على الإحالة المرجعية، بل على الاختلاف بين المدلولات المتناقضة. كما أن ديريدا ينكر القواعد والتعاريف والمعايير والمنهجيات الثابتة. لذا، فالتفكيكية منهجية وليست منهجية، لها خطوات وليس لها خطوات، هي ما بين بين، بين الداخل والخارج. ما يهمها هو تفكيك الفكر والنص والخطاب، وذلك عبر آلية التشتيت والتقويض والهدم،  لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة، والتشكيك في المسلمات اليقينية ، ودحضها عن طريق النقد والتشريح والاختلاف.

هذا، وقد انتقد جاك ديريدا الميتافيزيقا الغربية التي تمثل الحضور واللغة والدال الصوتي. ومن ثم، قوض مجموعة من المفاهيم السائدة، مثل: الهوية، والجوهر، واللوغوس، والعلامة، والمدلول، والظاهرة، والنظام، والكلية، والعضوية، والجوهر، والواقعية، والحقيقة، واليقين.

هذا، ويعد ميشيل فوكو كذلك من رواد ما بعد الحداثة، وقد اهتم كثيرا بمفهوم الخطاب والسلطة والقوة، حيث كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوة المؤسسات والمعارف العلمية. بمعنى أن المعارف في عصر ما تشكل خطابا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكل قوته وسلطته الحقيقية. هذا، ولقد اهتم فوكو كثيرا بتحليل الخطاب ، ورفض التقيد بالمناهج الجاهزة، واستعمال آليات مكررة، واعتبرها بمثابة علبة للمفاتيح. فالنص منفتح ومتعدد، لا يمكن قراءته قراءة أحادية فقط. ويعني هذا أن فوكو يؤمن بتعدد  القراءات واختلافها من قارئ إلى آخر.

ومن جهة أخرى، اهتم جيل دولوز  بالتعددية والانفتاح على الآخر إدراكا وتفاعلا، حيث اعتبر الفلسفة بأنها فلسفة التعددية. ومن ثم، فقد انتقد الهوية وفلسفة الواحد والتطابق. بيد أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لا تقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصورات ما بعد الحداثة واقعيا لغرابتها وشذوذها. وبذلك، استهلكت ما بعد الحداثة قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي. ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس. ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام. فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل ما بعد الحداثة متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي. لا غرو والحالة هذه أن تدخل ما بعد الحداثة  مجال العلوم الإنسانية حديثا جدا، وحتى هذا الدخول لم يتسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقا والاستعراضات المسرحية وغيرها من مشارب الحياة اليومية التي لا يترتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمس حياة الإنسان مباشرة. ولعل المفارقة القارة التي تجعلها عاجزة هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لا يمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره. ولذلك، فإن دفاع ما بعد الحداثة عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا. وككل هامشي، أصبحت ما بعد الحداثة تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة ، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية. هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات: حداثية كانت أو ما بعد حداثية.

ويلاحظ أن نظرية ما بعد الحداثة تقوض نفسها بنفسها، نظرا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي. وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر:” وقد اجتذبت ما بعد الحداثة نقدا إيجابيا وسلبيا على حد سواء. فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محررة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع. ولكن تعد حقبة ما بعد الحداثة أيضا أنها تقوض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة. وبالنسبة للكثيرين تعد غير مؤثرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية. وهكذا، نجد أن فلسفة ما بعد الحداثة لها قيم إيجابية وقيم سلبية، بيد أن ما يهم الإنسان في واقعه العملي هو التأسيس والتأصيل، وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف بدلا عن الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.

نستنتج مما سبق ذكره أن فلسفات ما بعد الحداثة عبارة عن معاول للهدم والتقويض والتفكيك، وتعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية التي تحكمت في الثقافة الغربية لأمد طويل فلسفيا وأنطولوجيا ولسانيا، مع تخليصه من الميثولوجيا الغربية القائمة على الهيمنة، والاستغلال، والاستلاب، والتعليب، والتغريب، وذلك عن طريق التسلح بمجموعة من الآليات الفكرية والمنهجية، كالتشكيك في المؤسسات الثقافية الغربية، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتعرية خطاباتها القمعية المبنية على السلطة والقوة والعنف، وإدانة خطابها الاستشراقي الكولونيالي، ومحارية التمييز العرقي واللوني والجنسي والثقافي والطبقي والحضاري.

بيد أن لما بعد الحداثة كذلك عيوبها الخطيرة، ومن أهم هذه العيوب أنها نظرية عبثية وفوضوية  وعدمية وتقويضية تساهم في تثبيت أنظمة الاستبداد والقمع والتنكيل، وتجعل من الإنسان كائنا عبثيا فوضويا لا قيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والشذوذ والسخرية والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيا وضآلة وانهيارا وتشتيتا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى