متنفَّس عبرَ القضبان (19)
المحامي حسن عبادي | فلسطين
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
كتب الأسير حسام زهدي شاهين لمجموعة “أكثر من قراءة” حين أقيمت في عمان ندوة حول أدب السجون يوم 12.09.2020: “إنني أرى في هذا الشكل من التواصل فيما بيننا شكلاً جميلاً من أشكال الحب الذي يمنحني دفعة كبيرة نحو الأمام، ويجعلني أتنفس شكلاً من أشكال الحرية، علماً أن هذا الحب يتعرض في هذه المرحلة إلى حملة تشويه صهيو-أمريكية بهدف النيل من نفسية الأسير وتحطيمها، فحياة الأسير تتجرد تدريجياً من رداء الماديات وتتحول إلى مجموعة من القيم والمبادئ، والحُب الذي يتدفق علينا من الخارج هو بمثابة الشرنقة التي تحمي هذه القيم، والتمكن من حجبه أو ضربه سيشكل لنا كارثة حقيقية…شكراً لكم على هذا الحب الذي إقتحم جدران عزلتي، وانعش روحي من جديد، وشكراً لأخي وصديقي الحبيب حسن عبادي، الذي يطيب لي أن أسميه “حسن الجسر” فبفضله صار هذا الحب ممكناً”.
عقّبت الروائيّة أسماء ناصر أبو عياش: ” كلّما أعدت قراءة هذا الكلام الرائع كلما اتسع قلبي ليحتوي كل الكون.. كل معذّبي الأرض.. سلمت لنا أستاذ حسن صلة وصل مع أشقاء قلوبنا.. ومع الحرية وفلسطيننا من مائها لمائها على موعد بإذن الله”.
” وما أدراك ما القمعة”
التقيت ظهر الخميس 03.12.2020 الأسير إسلام صالح محمد جرار (1) في سجن إيشيل ببئر السبع، مباشرة بعد لقائي بنائل البرغوثي، استفسر عن مشقّة السفر الكوروني وحدّثته بدَوري عن نشاط والده الشعريّ والفيسبوكيّ رغم عمره (ولد سنة 1931 في قرية برقين قضاء جنين).
أكملنا حديثنا حول ضرورة تدويل قضيّة الأسرى، فنحن بلد المليون أسير، والوصول بها إلى المحافل الدوليّة، حدّثني بحرقة عن تلك الجثامين التي ما زالت تقبع في ثلّاجات السجون، كتلك التي في مقابر الأرقام، ولم تحظ بعد بإكرامها ودفنها؛ ذكر لي الأسرى داوود الخطيب، كمال أبو وعر، بسام السايح، سعيد غرابلة، فارس بارود ونصار طقاطقة (رحمهم الله) الذين قُتلوا بدم بارد داخل السجون، ولم تُحرّر جثامينهم بعد ونحن صامتون صمت أهل القبور. حقًا، صمتُنا عار!
تناولنا مسودّة ورقة عمل بعنوان”صمتُنا عارنُا” (عنوان مؤقّت) لتلك الحملة، فهناك إجماع مؤسّساتي إسرائيلي ممنهج للتنكيل بالأسير الفلسطيني، يشمل كلّ أطياف الشارع الإسرائيلي، بجميع مؤسساته السياسيّة والأمنيّة، وتعبئة شعبويّة عامة تشمل وسائل الإعلام المجنّدة لشيطنة الأسير الفلسطيني، وتعبئة عامّة للجهاز القضائي لشرعنة الوسائل التعذيبيّة لتصير مُتاحة بموجب القانون، وتسويقها دوليّا، إعلاميًا وقانونيًا، وبالمقابل، هناك صمت فلسطيني ممأسس لتجاهل ملفّ الأسرى ودفنه، وكأن هذا الملف عبء كبير على كاهلنا ممّا جعل دولة الكيان تتصرّف بعنجهيّة وكأنها مُحصّنة ومحميّة من الملاحقة والمحاسبة، ممّا أدّى إلى غياب العدالة الدوليّة وعدم محاسبة دولة الكيان على جرائمها بحق الأسرى الفلسطينيين، وإمعانها في الإفلات من العقاب، لتسرح وتمرح في التنكيل بالأسرى.
لذا يتوجّب تبئير العمل، بدايةً، على الإهمال الطبي، الأشبال، الإداري والقمعات (القمعة هي عمليّة عقاب جماعيّ، تُستخدم فيها وسائل العنف والتنكيل ويميّزها استخدام العنف المفرط، استخدام الغاز المسيل للدموع، قنابل صوتيّة وكلاب، تقوم بها قوّات “النحشون”، سيّئة الصيت، و”درور” وغيرها)؛ اتفقنا على ضرورة جمع الشهادات والأدلّة من أجل التوجّة لمحكمة الجنايات الدوليّة وضرورة مرافقته الإعلاميّة المهنيّة، وكذلك طرحنا فكرة التوجّه بدعوات عينيّة من قبل الآلاف للقضاء الإسرائيلي تيمّنًا بالتجربة الجنوب أفريقيّة لتشكّل قوّة ضاغطة ومحركّة لملف الأسرى، يتجنّد لها مراقبون دوليّون.
رافقتني في طريق عودتي إلى حيفا لوحة هبة أيمن باسم فلسطين التي سمّيتها “سيلفي الجثامين”!
لك عزيزي إسلام أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
” طيف”
التقيت الأسير باسل عبد الرحمن أحمد الأسمر (2) في سجن إيشيل ببئر السبع، مباشرة بعد لقائي بنائل وإسلام، تحدّثنا بداية عن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون ومبادرة “لكلّ أسير كتاب” وأهميّة القراءة والكتابة خلف القضبان.
تناولنا مشروعه الأدبيّ وروايته “طيف” التي صارت في مراحلها النهائيّة لترى النور، وتأثّره بناجي العلي وغسّان كنفاني.
حدّثني حول المضايقات والتهديدات من قبل مخابرات السجن إثر كتاباته ورسوماته الكاريكاتيريّة، المصاعب التي تواجهه في نشرها والعزل يلوح في الأفق.
حدّثني عن حياة الأسر والأسير، بعيدًا عن المثاليّة والتأليه، لحظات صعبة يمرّ بها كغيره من الأسرى، بجرأة وخروجًا عن النصّ، بعيدًا عن التابوهات، ظلم ذوي القربى خلف القضبان وعبرها، صحراء الحرمان، احتياجاته الأساسيّة ولوازمه وضروريّاته اليوميّة لتكون له مساحة من الخصوصيّة والحريّة، مشكلة الأسنان وأوجاعها منذ الاعتداء النحشونيّ عام 2009 في معبار الرملة ورحلة العذاب التي لازمته حتّى تلقّى العلاج عام 2019 على حسابه الخاص.
وما زالت تلاحقه أحداث ليلة الاختطاف من سجن أريحا في 14.03.2006!
رافقتني في طريق عودتي إلى حيفا لوحة الفنان العكّي وليد قشاش ونداء الحريّة.
لك عزيزي باسل أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
حسن عبادي
حيفا كانون أوّل 2020
ــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الأسير إسلام جرار أُعتقل عام 2002، حكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة
بالسجن المؤبد المكرّر تسع مرات إضافة إلى 50 عامًا.
[2] الأسير باسل الأسمر أُعتقل بتاريخ 04.02.2002 من قبل السلطة الفلسطينيّة في سجن أريحا، تم اختطافه على أيدي قوات الاحتلال وحكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بالسجن المؤبد.