جدلية الأداء بين التمثيل والتحريك في مسرح الدمى

د. زينب عبد الأمير أحمد | العراق
قد يرى البعض أنني أبالغ عندما أبدأ مقالي النقدي هذا بمفردة الجدلية!! هل هناك جدل حول الأداء في مسرح الدمى بين من يعدّه تحريك ومن يعدّه تمثيل؟! هل هناك من يعارض أو يناقض فكرة وصف أو تصنيف ما يطلق عليه وفق ما متعارف عليه (محرك الدمى) بالممثل؟ هل يقتصر الأداء التمثيلي في مسرح الدمى على العروض التي يشترك فيها الممثل مع الدمى؟ أم أن هنالك ثمة ممثل من نوع أخر؟ أسئلة كثيرة تحتاج لأجوبة، والأجوبة تحتاج لبراهين كي لا نبخس هذا النوع من المسرح حقه، فهو مسرح والمسرح فن قائم بالدرجة الأولى على فن التمثيل، وعلى الخشبة تكون قضية الممثل أي الممارسة العملية التي تتم على الخشبة، وهي ليست من فعل الكاتب، أو من فعل المخرج، وإنما تعتمد على أداء الممثل كونه العنصر الوحيد الذي يقابل الجمهور ويواجهه طيلة زمن العرض… نعم الممثل هو سيد العرض، وعن أدائه في مسرح الدمى له خصوصية تميزه عن المفهوم المتعارف عليه للممثل في بقية الأنواع المسرحية الأخرى، لاسيما في عروض الدمى الحداثوية التي تمعن وتؤكد على ظهوره أمام الجمهور مع الدمية التي يؤدي من خلالها، وهذا يؤكد أهمية وخصوصية دوره الذي يضطلع به، فهو من يعبر عن أدواته الداخلية والخارجية من خلال الدمية لينقلها إلى الجمهور، بل هو من يتقمص الدمية (بوصفها شخصية) ليجعلها تحيا ومقنعة على خشبة المسرح! نعم الدمية تُخلق بوصفها شخصية ليس إلاّ، ومن يؤنسنها ويبث فيها الروح لتؤدي الفعل المسرحي هو الممثل عبر خياله وذاكرته وتركيزه وتفكيره ضمن الشق العقلي لأدواته الداخلية، وعبر إحساسه وانفعاله وعاطفته وطاقته الروحية ضمن الشق الوجداني لأدواته الداخلية، وكلا الشقين يرتبطان بما يطلق عليه بالذاكرة الانفعالية إلى جانب أدواته الخارجية عبر صوته وجسده ككل أو بعضاً منه، وهنا كيف يمكن للممثل الذي يكون قادراً على توظيف مجمل أدواته بكفاءة من خلال الدمية؟! الأمر ليس بالسهل ولا يمكن أن نطلق عليه (محرك دمى) كما هو متعارف! ذلك أن التحريك عملية فيزيائية بحتة تقترب للمفهوم الآلي الخالي من الإحساس والعاطفة أي إنه خالٍ من الشق الوجداني وهو بالمحصلة يبتعد عن معنى الفن وغايته! هذا من جانب، كما إن الممثل الذي يتقمص شخصية الدمية لابد وأن يخضع لتمارين مكثفة كي يمتلك مرونة جسدية ولكي يكون جسده قادراً على التعبير والتحمل، وعلى مستوى الصوت لابد وأن يكون صوته معبر وعميق وقوي وله مساحة كبيرة وقادراً على تقليد أصوات أخرى كأصوات الحيوانات وغيرها، وأن يكون صوته قادراً على التلوين.. هذا من جانب آخر، جميع هذه القدرات والمهارات لابد من توفرها لدى من يؤدي من خلال الدمية كي نطلق عليه ممثل لا محرك دمى! بل إن الممثل الذي يؤدي من خلاله الدمى يضطلع بمهمة أخرى إلى جانب التمثيل إلا وهي مهمة الإخراج !! فهو الممثل المخرج الذي يشتغل على نحت أداء الدمية وفقاً لطبيعة واشتراطات مفاصلها الحركية التي يتحكم بها نوع الدمية وحجمها وشكلها، وقد نجده من قام بتصميم الدمية ونحتها وتشكيلها وبالتالي يستحق أن نطلق عليه فنان دمى شامل (على حد تعبير الفنان الشامل الأستاذ محمد قطامش)، بل إن هناك من يؤلف النص المسرحي في هذا النوع من الفنون ويمضي بتجسيده عبر العديد من المراحل انتهاءً بالعرض المسرحي؛ ذلك أن يمر بمراحل تشكيل الدمية ويمتلك أدوات التأليف المسرحي سينجح في صياغة نص له خصوصية تنسجم وخصوصية مسرح الدمى.
الدمية المسرحية لا حدود لطاقاتها التعبيرية، ولا حدود لعملياتها الإبداعية ومن يتعامل معها لابد أن يكون على قدر ذلك، فاهماً لا مكاناتها وابعادها بوصفها شخصية واعياً بفضاءات اشتغالاتها الجمالية وبدون ذلك سيكون الامر كما لو اننا نحرك يميناً و يساراً قطعة قماش او خشب او فلين الخ … ولدي نص يتحدث عن الممثل في مسرح الدمى في خطاب لرئيس منظمة يونيما لعام ١٩٧٦ فنان الدمى السوفيتي ( سيرجي اوبرازتسوف) ترجمة (نعيم بدوي) يقول فيه ” ومن بين ممثلي الدمى البرخت روزر ، وكان الذي يقوم بالدور دمية تمثل عاجزاً يسير حول المسرح – او بالأحرى في المجال الذي يقف فيه روزر نفسه – وكان العاجز عبارة عن دمية تتحرك بالأسلاك والممثل والاسلاك كانا ظاهرين للعيان ، ومع ذلك كان التأثير العاطفي قوياً جداً بسبب كون ذلك العاجز دمية وليس رجلاً حقيقياً ” وهناك شواهد كثيرة تؤيد مقالي هذا الذي اجده لا يصل لمستوى الاقتراح – فأنا لا اقوم باقتراح فكرة موجودة اصلاً !! – بل هي محاولة جادة لتمحيص ونقد لتصحيح بعض المصطلحات الشائعة التي اصبحت غير مجدية وغير مقنعة امام تطور فنون الدمى على مستوى الاداء والتشكيل ، لذا ادعو من خلال مقالي المتواضع الصادق هذا الى التغيير !! ان نعطي للأشياء مسمياتها الحقيقية ودورها الذي تؤديه؛ ذلك ان أداء الممثل من خلال الدمية له من الأسس والقواعد التي تجعل منه فنًا يرتبط بالفكر، والهدف المراد تجسيده وطرحه على الخشبة في إطار فني جمالي ممتع هو اداء الممثل، الذي يعتبر عنصرًا اساسيًا في خلقه، وليس مجرد حركات أو إشارات لتسلية الجمهور واضحاكه دون قصد ومعنى.
المصادر:
سيرجي اوبرازتسوف . اهمية مسرح الدمى في المجتمع المعاصر – خطاب في مؤتمر منظمة اليونيما. ترجمة : نعيم بدوي ، مجلة ثقافة الاطفال – دراسات وافكار ، ١٩٩٠ ، ص ١٨٦.