مصطفى جمعة.. يخلع نفسه الأمّارة بالشعر

ناصر أبو عون 

لا شيء في هذا المخطوط غير سماء ثامنة، مرصعة بنجوم خماسية؛ أسنتها المدببة: بلاغة ومشاهد يومية، ومقذوفات ضوئية من الكلمات، وواقعية سحرية، وندوب حزينة في شكل بثور على جلد القصائد.
لا جديد عند مصطفى جمعة غير اعترافات رجل يتزمل باللغة، مرتعدا من بلادة هذا العالم، وصقيع المشاعر المتجمدة، ويتصبب عرقا في آن واحد يقتفي أثر الدفء في غار من الأفكار المتصادمة موجاتها والتي تخرج من عقله وترتد بالقوة ذاتها فتثقب فضاء الروح.
في هذا الديوان يتوكأ الشاعر الليبي مصطفى جمعة على عصا الروح ويهش على الأفكار المتسربلة بدماء المعنى، وتسير قطعانا ما بين السطور تخشى ذئب الحداثة، ولا تأمن مكر الأفاعي الزاحفة على بياض الورق.
هذا المخطوط لكاتب لا يترك فرصة حتى يتبرأ من الشعر؛ وهو متلبِّس به، وواقع في لجته من رأسه حتى أخمص قدمية، مستحم بالبلاغة، ويدعي التوسّل بالكتابة طريقا للخلاص؛ وهو متدثر بها ولا ينفك عنها؛ قلمه بيمينه، واللغة بشماله، وفي رأسه سرب من الصور والاستعارات، ومن أمامه قطعان النعاني يسوسها. ومن خلفه وجدان يستحثه على السير صوب القصيدة.

خِلتُ لوهلةٍ عندما رأيت عينيكِ
اني أعرف الطريق..
فلم آبه للوحشة
التي اعتَرتْ صوت خطواتي..
والصّدى المتوحّد
في موج الظلام
ورائحة الحريق..
وبلا تروٍ… تبعتُ البريق..
وحدثت نفسي أني أحلم..
وحدثت نفسي
أني عما قليل ..سأصحو..
عما قليل …سأفيق…
وليتني أفيق..

ينتمي مصطفى جمعة إلى فصيل من كُتاب قصيدة النثر في ليبيا؛ تفتحت وردة الكتابة في وعيه مع انبلاج فجر القرن الحادي والعشرين، استيقظ وعيه المعرفي، وفزع من سباته على خراب عظيم، وأخدود عظيم تردّت فيه القومية العربية، وسقطت كل الأقنعة، واعتلت فيه الفردية وتشظت فيه كل الكيانات بدايةً من القبيلة وانتهاءً بالدولة/الحلم، ولم يجد بدا إلا أن يتحصن في قلعة الأخلاق بعد أن خلع العالم ثوب الفضيلة ووقف عاريا متخايلا ومتفاخرا بتحطيم كل دساتير الإنسانية وبنى هيكلا من الأصنام اعتلاه الشيطان ممسكا بالصولجان.
عزيزي القاريء أدعوك لقراءة هذا الديوان/ أقصد أدعوك للنظر في هذه المرآة المشروخة والمتشظية.. بحثا عن بقايا صورتك المتناثرة على صفحتها وحاول أن تعيد ترتيب المشاهد والقصائد، وتجميع الكلمات، وبناء الصورة من جديد التي جهد مصطفى جمعة في تفكيكها لعلك تكتشف نفسك المتخفية خلف ملايين الأقنعة التي احترفت تبديلها بسرعة تفوق سرعة الضوء إمعانا في الهروب من الحقيقة.
عبر 73 مرآة/نصا/قصيدة/مشهدا/يمكنك عزيز القارئ تسميتها كما يحلو لك ستجد صورتك الواقعية بل رتوش في إحداها فاقبض عليها قبض الجمر، وانهض من غفوتك واخر ج من كهفك إلى نور الحقيقة؛ لكن اخلع نفسك الأمّارة بالشعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى