قصة قصيرة: غزغزني شوكه!

ميسون أسدي | فلسطين

“هالعكوب العكبته، غزغزني شوكه… آه

بإيدي أنيته وطبخته، غزغزني شوكه… آه

عكوب بلدي…  لأبويه وولدي…”

استيقظت باكرًا أفكّر في صحن العكوب الذي قدّمته لي صديقتي اللدودة خيريّة، التي أجتهد دائمًا تجنّب لقاءها لخلل ما في شخصيتها، ولا أعرف ما هو بالتحديد، فهي قويّة جدًّا، جسديّا ونفسيّا مُدجّنة وذكيّة لحد الجنون، ولعوب لدرجة لا تطاق، ولها عشرات الوجوه التي لا تعرف أيّا منها تلبسه عند لقياها، وما أن تكتشفه إلا وتستبدله بوجه آخر، فتضيع بين حانا ومانا، وكنت بعكسها مثل قاموسي، بسيطة وعشوائيّة وطليقة وغير مُدجّنة، ولا أقرأ بين السطور وأنا في حضور شخص ما، وأخلط كثيرا بين دموع الأفراح والأتراح، وأنّني أخون الأشكال والتصنيفات جميعها. بقربها أسكت وأهرب بتفكيري، لأبدو غبيّة وضعيفة، وأجعلها دائمًا تبدو القوية والملمّة بكل شيء، ولا يبدر منّي أي تعليق، لأنّني أراها وأشعر بالإحراج من تصرفاتها بعيون أبنائها، لذلك أخاف من مجالستها، لأنّ مجمل حديثها لغو وسخافات وطرطشات وسقط زند طائش. مزعجة خيريّة في كل الحالات، إذا كانت حزينة أو فرحة أو هادئة أو عصبية، فهي تؤذي مُجالسها بكل الحالات. كنت أبتعد عنها لفترات طويلة، وتعاود الاتصال بي، فيرقّ لها قلبي. فنحن بنات القرية التي لم تنجح المدينة بلفنا تحت إبطيها كباقي سكان المدينة، نحنّ على بعضنا.

اتصلت بي خيريّة في ساعات الصباح الباكر قبل ذهابي إلى العمل؛ لأقوم بزيارتها ولكنني لم أفعل، فضّلت الذهاب لزيارة جارة عجوز في أواخر عمرها، فهي أحقّ منها بهذه الزيارة.

اعتقدت في حينه، أنّني تخلصت منها ومن دعوتها، لكنّها اتصلت بي ثانية حين عودتي من العمل في ساعات المساء، وأصرّت على دعوتي؛ لأتناول عندها طبخة العكوب التي حضّرتها بنفسها، فهي من بلدة شهيرة بهذه الأكلة الطيبة، وكانت تعرف مسبّقا بأنّني لا أطبخ هذه الأكلة لسبب واحد بأنني لم أتعرف عليها في مطبخ والدتي مع أنّني أكلتها عدة مرّات في بيت إحدى الصديقات.

بالأمس، كانت خيريّة في زيارتي، أكلنا معّا خبّيزة قطفتها بنفسي من الأرض، وطبختها مع عروق الشومر على غير المتّبع، وعندما شبعنا، أخذنا نتحلّى على حبات الجوز التي اشتريتها من سيّدة تجمع حبات الجوز المتساقطة من الأشجار التي تمّ قطفها، ثم تبيعها بأرخص من السعر المعروف بكثير… ثمّ شربنا شاي زهورات اشتريتها من عند العطار في مدينة عكا.. اعتقدت أن دعوتها لي اليوم في المساء، كانت بمثابة رد لزيارتها عندي، وبأنها ستكرمني وسترد الصاع صاعين بما ستقدّمه لي من ضيافة. تردّدت كثيرا ولكنّي في النهاية ذهبت إليها بعد إلحاحها الشديد، وقلت في نفسي: حسنا، سأضيّع القليل من الوقت خاصة أنّني أعاني الكثير من الملل في ساعات المساء.

عندما وصلت إليها، لم تكن تضحك كعادتها بشكل هستيري، واعتقدت بانها ارتكبت خطأ ما مع أولادها أو زوجها أو في عملها، فالشعور بالذنب كان جليّا على وجهها. ولكن عندما ذاب الثلج، بان المرج. 

جلست على طاولة الطعام، وإذ بها تقدم لي صحن العكوب وهو صحن صغير لا يتعدى اللقمتين. نظرت في الصحن شمالا ويمينا بذهول وسألتها بصدق وغرابة:

–        أين العكّوب؟

قالت بما يزيد الطين بلّة ويبلبل الفكر أكثر وأكثر:

–        إذن أنت تعرفين العكوب!

ومُرت كما يمُور المرجل بالخطايا قائلة:

 أنا فلاحة حتى النخاع، وأحبّ الأرض وما تنتج، لم أطبخ العكوب ولم تطبخه والدتي سابقا، ولكنّني أعرفه جيّدا، ثمّ إنني ملمّة بالأكلات الفلسطينية التقليدية، وخاصة تلك التي تخرج من باطن الأرض. ثمّ هرشت وسعلت وتنحنحت وقالت:

هذا هو العكوب. أنا بصراحة أحب الأضلاع ولا أحب رؤوس العكوب، وأنا قدّمت لك صحنا صغيرا لأنني أعرف بانّك لا تحبين اللحمة.

شعرت كم كنت غبية في الماضي، وسأشعر كم أصبحت أغبى؛ لأنني ما زلت لا أعرف إلا القليل عن البشر فقلت مبتسمة:

–        أعتقد أن هذا ما تبقّى عندك من أكلة العكوب.

فعلا عندما قدّمت لي خيريّة صحن العكوب كان به بعض القطع الصغيرة التي لا تشبه أضلاع العكوب، فاعتقدت أن هناك بعض الرؤوس الضائعة، وعندما تلمستها بالملعقة وقربتها من عيني فهمت بأنّ هذه قطع لحم، فازداد اشمئزازي من صحن العكوب. لم أرد أن تشعر خيريّة بتقزّزي منها، فتناولت حبّة خيار كانت قد اجتهدت ووضعتها بقرب صحن العكوب، وقضمتها وأرجعت لها الصحن كما هو.

أخفيت غضبي بين أضلاع صدري وجاريتها بالحديث، وانتهزت الفرصة الأولى وعدت أدراجي إلى البيت، وأنا أقسم بأعظم الأيمان، بأنّني لن أذوق ملح بيتها بعد اليوم ويحرم عليّ أكلها.

وفي طريقي إلى البيت انثنت رجلي فآلمتني، فقلت هذا جزاء من يأكل العكوب من غير صحنه… سأعيش في عالمي الخاص، سأبحث عن مجنون يشبهني، سأعشق رجلا مثلي ضائعا بين أحضان الكتب، وأحسست بنرجسية مفرطة، فبدأت في كتابة قصة العكوب وأنا أردد مطلع أغنية للفنان الفلسطيني مصطفى الكرد:

“هالعكوب ال عكّبته، غزغزني شوكه… آه

بإيدي أنيته وطبخته، غزغزني شوكه… آه

عكوب بلدي…  لأبويه وولدي…”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى