ما فوق الوهم والحقيقة الغائبة
د. سامي محمود إبراهيم
رئيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة الموصل/ العراق
من المعلوم أن العقل البشري مناط العلم وأساس حركة الإنسان في حياته، إذ هو المنظم والموجهة والقائم بأمر الفعل الواعي الآدمي، لذا كان وجوده في حياة الإنسان وجودا خاصا في حد ذاته، وكرما ربانيا لبني آدم على سائر المخلوقات، يقول تعالى: ” ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً” . الإسراء،70.
إنه التكريم والتشريف العظيم، إذ يتفق المفسرون على أن التكريم إنما هو بالعقل والمنطق وتسخير كل شيء لهذا الكائن العجيب. إن العقل هو الدعامة الأساس التي بنيت عليها الكثير من مقومات تكريم الله للبشر، ومع العقل كان سر الحضارة الانسانية وقوة الاجتماع البشري عبر الزمن. وبدون العقل لا يكون هناك انسان، ولا تقدم ولا رقي ولا وعي بأي شيء كان.
ومما لا شك فيه أن التفكير الناجح لا يأتي من فراغ. ولا ينبع من مصدر سطحي، فعملية التفكير تكون قوية عندما تعتمد على الحقيقة والواقعية. وإن الفكر الإنساني نفسه يتكئ على قدرات ذاتية متمركزة في بناء الإنسان الجسمي والنفسي، وهنا قد تختلف القدرة الفكرية من شخص الى آخر. ولكن لابد من القول إن القدرة الفكرية للإنسان تتوقف عند حد معين، ما لم يتم تغذية العقل بالمعلومات وبكسب التجارب والخبرات، لذا نجد إن كثيرا من الدراسات والبحوث العملية قد تطرأ على بعضها تعديل أو تغيير شامل، ذلك نتيجة لتوافر معلومات ساعدت على معرفة الحقيقة، وهناك الكثير من الأمراض التي كانت في زمن ما أمراضاً خطيرة أو مستعصية ويعجز العقل البشري عن إيجاد الدواء لها، وأصبحت اليوم بفضل تقدم وتطور العلم من الأمراض التي يمكن علاجها، وهناك أمثلة كثيرة في شتى مجالات الحياة.
لذا ومما تقدم علينا في عصرنا الحاضر أن نسأل أنفسنا بوضوح، كيف نفكر؟ كيف نعقل ، بل كيف نتعقل في عصر الفوضى والجنون؟!لقد وصلت الانسانية الى مستوى الجنون، فكيف والجنون اصبح آيات مدهشة في حكم زمن استقالة العقل والتعقل، اصبح هناك ممارسة علنية لعقلنة الجنون، نمارس عادة الكلام بين الكذب والنفاق، وكأننا نصعد المطر إلى السماء.
طالبوا الإنسان بالتعقل زمن الفوضى، علما أن التعقل في قاموس الحضارة المعاصرة تخاذل وجبن بليغ، وعزف على وتر الخنوع، فلا للجبن عنوان دونهم، ولا للخنوع ملوك سواهم, لذا انهار الأمن العالمي، انهارت المفاهيم، انهارت الإنسانية وتهاوت، انهار النظام الاقتصادي العالمي, لأن بنك المفاهيم الإنسانية فقد رصيده في سوق النخاسة، وحرروا فلسطين والعراق وأفغانستان من أصحابها العرب والمسلمين, حتى يتمكنوا من احتلال الحيوان الناطق في عقل الإنسان، ولكي نصادق على صكوك الغفران الممنوحة للإنسان الذي يستبيح دم أخيه الانسان.. حينما يعلن جهرا ان الانسان قتل الحق انتقاما من حواء التي أغوت ابونا آدم عليه السلام!
إزاء هذه التناقضات علينا أن نضحك ملء حناجرنا, لنتلمس بيت القصيد, كيف غدا الجنون من رحم الإنسانية وليدا, وبات التعقل دربا من الأوهام، حيث لازال هناك متسع من إراقة الدم الحرام.. ترى كم من الوقت يلزمنا لنعلم أن التعقل يعني حضورنا والحياة ؟