إبداع الأزمات
أ. د. محمد سعيد حسب الني | أكاديمي مصري
أصابته محنة شديدة عقب صدور مؤَلَفه المثير للجدل “في الشعر الجاهلي” عام 1926 والذي استعدى به بعض رجال الدين في عصره، ويبدو أن تلك المحنة قد نالت منه فأدت إلى عزله عن منصب عميد كلية الآداب، كما نُصح بالسفر إلى فرنسا. وبالفعل نُفي طه حسين إلى تلك البلد التي أحبها دوماً ليقضي فيها تسعة أشهر كاملة، لكن طعم النفي مرٌ حتى إذا كان إلى البلد الذي تحب. ومن العجيب أن هذه المحنة انتهت على غير ما كان يتوقع؛ فقد أملى طه حسين دفعة واحدة مبدعه الأهم الذي يعد علامة في الأدب العربي وهو كتاب “الأيام”.
لا تكاد تخلو حياة الإنسان من محن تتفاوت في قوتها وأثرها وتأثيرها وفقاً لصلابة متلقيها، ولم يسلم أحد من تلك الأزمات التي تعصف بحياة كثير من الناس، وأعرف من هؤلاء من وقع نتيجة الأزمة والوضع الفاجع في عزل نفسه عن الناس فريسة إحدى النوبات السوداء المخيفة التي يعدها الأقسى في حياته، تراه يحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف كما لو أنه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أي شيء على الإطلاق أن ينتزعه منها، كأن حياته قد توقفت وانسحقت بلا أمل في مواجهة عزلة مطلقة يفرضها على نفسه، ورفضه العنيد سماع أقل كلمة تريد أو تحاول معاونته.
لكن أصحاب البصيرة الصافية والوجدان المشرق يتعلمون كيف يسيطرون على النفس وعلى الأحداث وكيف يتصلبون في وجه التحديات، إنهم يجترون الصدمة مهما جفت أساريرها وخشنت ملامحها. وكذلك أرباب العزائم يجتازون تلك المفاوز الضيقة والسدود الصعبة رغم التواء المسالك وخفوت المنارات. وقد يدهش كثير منا إذا عرفوا أن المحن تستجلي الضمائر وتشد النفوس وتهذب الوجدان وتستنفر القوى وتستنهض الهمم وتستحث الإبداع وتكشف الخابي في أعماق الوجدان. وطه حسين كان من هؤلاء الذين امتحنتهم الأزمة فأبانت جانباً مشرقاً من نفسه لتسفر تلك النفس عن إبداع ولا أروع في تاريخ السير الذاتية. إنه إبداع الأزمات الذي يتجلى في تلك اللحظات الصعبة من الحياة. وما يزال يُلقى في روع بعض هؤلاء المبتلين ذلك اليقين الذي يقضي بأنهم يسيرون موجهين بمشيئة عليا اصطفتهم لتجربة صعبة تمتحن بها طاقتهم على الصمود والاحتمال، وتبلو مدى استعدادهم لاجتلاء السر المحجب المضنون به على غير أهله.
يجب أن نتحلى بسمات الشخصية القوية التي تعمل كمصدات نفسية في مواجهة أحداث الحياة الضاغطة، كما ينبغي لنا أن نوظف كل المصادر الذاتية والبيئية المتاحة كي ندرك ونفسر ونواجه أحداث الحياة بفاعلية وكفاءة واقتدار.