الوعي بين صناعة الفكر وتزييف الإدراك: حين تتحوّل العقول إلى ساحات صراع

بقلم: عماد خالد رحمة|برلين
في عالمٍ تتداخل فيه الحقائق بالأوهام، وتتحوّل المعرفة إلى سلعة، يصبح الحديث عن الوعي ضرورة وجودية لا ترفًا فلسفيًّا. فالوعي، بما هو إدراك واعٍ للذات وللعالم، لم يعد مجرّد قدرة عقلية تُمارَس فطريًّا، بل غدا حصيلة معقّدة لصراعات معرفية، وتحكّمات سلطوية، وإكراهات إعلامية وتكنولوجية تشكّل البنية التحتية لإدراكنا الجمعي.
من هنا، تأتي الحاجة إلى تفكيك هذا المفهوم المركّب، واستعادة مجده الفلسفي، وإعادة تموضع المفكر والمثقف بوصفه فاعلًا في تشكيل وعي الأمة، لا متفرّجًا على انهياره. إذ لم يعد الصراع قائمًا على الحدود، بل على العقول. ولم تعد الحروب تُخاض بالسلاح فقط، بل بالكلمة، والصورة، والمعلومة، والمصطلح. فهل نمتلك القدرة على استعادة الوعي؟ وهل لا يزال للمثقف دور في معركة الحقيقة؟
- أولاً: الوعي بين المعنى الفلسفي والوظيفة المجتمعية
عرف الفلاسفة الوعي بطرق شتى، غير أن أغلبهم اتفقوا على كونه جوهرًا إنسانيًّا متجاوزًا للجسد. فـ”جون لوك” أشار إلى أن الوعي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهوية الفردية، وأن الإنسان لا يكون هو ذاته إلا عبر وعيه لذاته، لا عبر جسده. أما “ديكارت”، فقد اعتبر الوعي مرادفًا للفكر، بقوله: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”، مشيرًا إلى أن وجود الإنسان يتحقق بوعيه لا بمظهره الخارجي.
أما “إيمانويل كانط”، فاعتبر أن الوعي ليس فقط معرفة مباشرة بالأشياء، بل قدرة على التفكير في التفكير ذاته، وهي ما سمّاه بـ”الوعي التأملي”، مميزًا بين الوعي الحسي المباشر والوعي العقلي المنظّم. في حين رأى “هيغل” أن الوعي لا يكتمل إلا في صراعه مع الآخر، أي من خلال الاعتراف المتبادل الذي يشكّل جدل السيد والعبد، ما يؤكّد أن الوعي لا ينمو في العزلة، بل في التفاعل والتناقض.
وأما “كارل يونغ”، فقد ذهب إلى أن الوعي الفردي ما هو إلا قمة جبلٍ جليديّ، تخفي تحته لاوعيًا جمعيًّا هائلًا، تتراكم فيه الرموز والأساطير والموروثات، وهو ما يجعل وعي الإنسان خاضعًا لطبقات خفية من التوجيه الثقافي والنفسي. - ثانياً: من المثقف العضوي إلى تفاهة الجماهير.
لعب المثقفون والمفكرون دورًا تاريخيًّا في تشكيل وعي الجماهير. فالروائي الروسي “فيودور دوستويفسكي” كتب بأن “الإنسان دون وعي أخلاقي، هو وحشٌ محرّر”، فيما كان “جان بول سارتر” يرى أن مهمة المثقف ليست تفسير العالم، بل تغييره. أما “إدوارد سعيد”، فذهب في كتابه “تمثيلات المثقف” إلى أنّ المثقف الحق هو من يظلّ في موقع نقدي دائم تجاه السلطة، لا تابعًا لها ولا مبررًا لأفعالها.
لكن هذا الدور أخذ في التلاشي مع تصاعد الهيمنة الإعلامية والاقتصادية على مصادر الوعي، حتى أصبح المثقف مهدَّدًا بالتحوّل إلى مجرّد “خبير” أو “مؤثر” في خدمة منظومات تجارية أو سياسية. لقد حذّر “نعوم تشومسكي” من ذلك مبكرًا في نقده لوسائل الإعلام الأمريكية، مؤكّدًا أن “الإعلام يصنع الرضا الجماهيري”، أي أنه يُدجّن العقول بدلاً من تحريرها.
وهذا ما يجعل من مصطلح “صناعة الوعي” دالًّا على تحوّل خطير: فالوعي لم يعد يُبنى في فضاء الحوار والمعرفة، بل يُصاغ في مطابخ السياسات، ويُمرّر عبر شاشات مموّلة، ومنصات مرتهنة، تروّج لوعي مشوّه يخدم السلطة أو السوق. - ثالثاً: الدين بين الهداية والاستغلال.
في التاريخ الإسلامي، مثّل العلماء ورجال الدين نورًا يهدي العقول، لا عصيًا تُسلّط على الرقاب. فالقرآن الكريم نفسه دعا إلى “التفكّر”، و”التأمل”، و”التعقل”، وهي مفاتيح الوعي. غير أن الدين، حين يُستلب من مقاصده الكبرى، يتحوّل إلى أداة طيّعة بيد السلطة.
وقد أشار الفيلسوف المغربي “محمد عابد الجابري” إلى ما سمّاه بـ”العقل المستقيل”، وهو العقل الذي تخلى عن مسؤوليته النقدية، ليترك المجال مفتوحًا أمام التفسيرات التبريرية التي تحوّل الدين إلى خطاب للهيمنة لا للتحرير.
إنّ الأزمة ليست في الدين، بل في “تسييسه”، وتحويله إلى أداة لتخدير الوعي، أو لإنتاج طاعة عمياء. وهذا ما يتقاطع مع رؤية “ميشيل فوكو” حول العلاقة بين الخطاب والسلطة، إذ يرى أن السلطة لا تحتاج إلى القمع المباشر دائمًا، بل يمكنها أن تحكم من خلال نظم معرفية تتحكّم بما يُقال ويُفكَّر ويُعتَقَد. - رابعاً: وعي ملوّث في زمن التكنولوجيا والتفاهة.
كتب “ألبرتو مانغويل” في كتابه “تاريخ القراءة” أن الإنسان المعاصر لم يعُد يقرأ ليعرف، بل ليستهلك. لقد أصبح الوعي اليوم رهينة “الترند” و”الفيديو القصير”، وغدا الانتباه عملة نادرة، والعزلة التأملية عيبًا. أما “ميشيل دي مونتين”، فكان قد نبّه في القرن السادس عشر إلى أن “أعظم ما نخسره في هذا العالم هو ملكة الحكم الذاتي”، وهي اليوم تُصادر تمامًا تحت سطوة الإعلام.
وإذا استحضرنا كتاب “مجتمع الفرجة” لـ”غي ديبور”، فإنّ الواقع لم يعد يُعاش، بل يُمثّل، والوعي لم يعُد يولَد في الواقع، بل في صور الواقع، التي تُعيد تشكيله بطرقٍ تخدم السطح وتُهمل العمق.
لقد تحوّلت التكنولوجيا إلى آلة ضخمة لإعادة إنتاج وعي زائف، عبر التكرار، والتشتيت، والضخّ الممنهج للمعلومة المتحيّزة، أو المقصوصة، أو المفبركة. وهنا يكمن خطر مزدوج: أن تُنتهك الحقيقة، ويُروّج للوهم باسم الحرية. - دعوة إلى ثورة وعي: العقل قاعدة السيادة.
في ضوء كلّ ما سبق، فإنّ من واجب كلّ مفكّر ومثقف وصاحب ضمير أن يسعى لاستعادة موقعه في معركة الوعي. وكما قال “غرامشي” في سجونه الفاشية: “المثقّف الحقيقي هو من يجعل من فكره جسرًا للآخرين، لا عرشًا لنفسه”. يجب أن نُعيد بناء الوعي من أسفل، لا من أبراج عاجية، عبر التثقيف الشعبي، واستعادة دور المدرسة والكتاب، وإحياء حسّ السؤال لا تلقين الجواب.
إنّ إعادة الوعي إلى مساره الحقيقي لا تعني استرجاع الماضي، بل استحضار جوهره التحرّري، والانطلاق منه لبناء مستقبلٍ تكون فيه السيادة للعقل، لا للسلطة، وللحقيقة، لا للتهويمات.
- الخاتمة: الوعي مستقبل الأمّة وسلاحها الأخير:
الأمم لا تُبنى بالجيوش وحدها، بل بالوعي الحرّ، والمعرفة النزيهة، والإرادة المستنيرة. في مواجهة وعيٍ مزيّف، ومشوّه، وهجين، لا بدّ من استعادة وعيٍ أصيل، نابض بالتفكير، متصل بالحقيقة، ومُنفتح على النقد.
إننا في أمسّ الحاجة إلى مثقفين ومفكرين لا يصمتون أمام الطغيان، ولا يتواطؤون مع الجهل، ولا يبرّرون الفساد، بل يصنعون من الكلمة وعيًا، ومن الفكرة مقاومة، ومن العقل بوصلة.
كما قال المفكر الألماني “يورغن هابرماس”: “الوعي النقدي هو الذي يصون الديمقراطية من أن تتحوّل إلى واجهة خاوية”.
إننا نواجه لا مجرّد أزمة وعي، بل أزمة في صناعة الإنسان الواعي. ولهذا، فالمعركة المقبلة ليست سياسية فقط، بل وجودية، من أجل بقاء العقل، وحماية الكرامة، وصون المستقبل.




