حول المالية الإسلامية
شيخة الفجرية | كاتبة عمانية
إن النظم الاقتصادية لا تنحصر في النظم المعروفة في العصر الحديث، مثل:
1ـ النظام الرأسمالي (Capitalism)، الذي أسسه الأسكتلندي آدم سميث، إذ صاغ مبادئه في كتابه “ثروة الأمم” المنشور سنة1776، لتتبلور بعده كتابات ذات مبادئ إضافية لريكاردو، وجون ستيوارت ميل، والفريد مارشيل، وكينز وغيرهم، ويرتكز هذا النظام على عدة فرضيات وعناصر رئيسة أبرزها “الملكية الخاصة لموارد الإنتاج”.
2ـ النظام الاشتراكي (Socialism)، المنبثق من الفكر الماركسي لـ “كارل ماركس” الذي انتقد في كتابه “رأس المال” المنشور سنة1867 النظام الرأسمالي وآلياته؛ وهو يجرى بموجب مقولة: “من كلٍّ حسب جهده لكلٍّ حسب عمله”.
3ـ النظام المختلط_ يجمع بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي _، الذي انتهجته أغلب الدول النامية والفقيرة.
كل هذه النظم وغيرها سبقها النظام الاقتصادي الإسلامي، الذي بدأ نظامه بـ “الزكاة”، التي صحح بها الإسلام الحنيف مسار الاستحقاقات، فجعلها تؤخذ من الأغنياء لصالح الفقراء بعد أن كانت عكس ذلك تمامًا؛ يقول الله سبحانه في سورة الحشر: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
وقام هذا النظام على عدة مبادئ أبرزها ” الملكية الفردية بتفاوت بين الناس”، وقد أقرَّ الله تعالى هذا التفاوت في سورة الأنعام فقال عزوجل:﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165)﴾، ثم في قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)﴾، وقوله تعالى في سورة الزخرف: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾.
وواحدة من نواهي الشريعة الإسلامية في التعاملات في مال الله، هي عدم كنز المال؛ لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)﴾.
والمال لغة: “هو كل ما يمتلكه الإنسان من الأشياء”، وقيل: “المال معروف، وجمعه أموال، وكانت أموال العرب أنعامها”، أما اصطلاحا: فقد عرَّفه الشاطبي بأنه “: ما يقع عليه الملك، ويستبد به المالك عن غيره، إذا أخذه من وجهه.” وتتحقق المالية بأمرين:
أ- “أن يكون الشيء ذا قيمة بين الناس سواء كان عيناً، أو منفعة مادية، أو معنوية.
ب- أن يكون الشيء مباح الاستعمال في حال السعة والاختيار”.
ومصدر هذا المال هو الله تعالى، إذ يقول سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. وأما عن مشروعية الانتفاع، فقد روى ثور بن يزيد يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ” المسلمون شركاء في ثلاثة: الكلأ، والماء، والنار ”
ويأتي تحديد حق الانتفاع بأموال المسلمين أو الامتناع عنه وفق الآتي:
ـ ” روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اقطعني وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض كذا وكذا، فذهب الزبير رضي الله عنه إلى آل عمر فاشترى منهم نصيبهم، وقال الزبير لعثمان بن عفان رضي الله عنه: إن ابن عوف قال كذا وكذا، فقال عثمان: هو جائز الشهادة له وعليه”.
ـ في عدم استئثار فرد بعينه على المال العام، فقد “روى أن أبيض بن حمال؛ وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقطعه الملح الذي بمأرب فقطعه له، فلما أن ولى، قال رجل في المجلس: أتدري ما قطعت له، إنما قطعت له الماء العد، فانتزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.”
ـ روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه فهو غلول يأتي به يوم القيامة “.
ـ روي أن رجلاً مات، فدعي النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فامتنع، قال: ” صلوا على صاحبكم فإنه قد غل، ففتشوا رحله فوجدوا فيه خرزات لا تساوي درهمين”.
ويسمى المال في الفكر المحاسبي بـ “الأصول”، تقسم إلى أصول ثابتة، وأصول متداولة (دوران رأس المال بيع وشراء (، وتتوزع هذه الأصول إلى عدة تصنيفات وتعريفات؛ كل واحدة منها تؤدي وظيفة مالية محددة. وكما أن النظم الرأسمالية أوجدت المشتقات المالية (Financial Derivatives)، وفق فكرة ” الابتكار المالي “، فإن المصارف الإسلامية نجحت كذلك في إصدار بعض الأدوات التمويلية، القائمة على فكرة “سندات المقارضة”، التي عرفها مجمع الفقه الإسلامي الدولي (مؤسسة تتبع منظمة المؤتمر الإسلامي) بأنها: “أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض ، بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأسمال المضاربة وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه” . وعملت الصكوك الإسلامية على “الاحتفاظ بمستوى عالٍ من موجوداتها بشكل نقد”، لتعمل على سد ضعف التوازن بين مواردها واستخداماتها في كثير من الحالات؛ كما جاء في بحث” الأدوات التمويلية الإسلامية ” لحسان حامد. وكانت هي الأشد حاجة للهندسة المالية _الهندسة المالية بحد ذاتها منظومة تحتوي على مجموعة من التصنيفات والتفصيلات_ التي تمكنها من إدارة سيولتها _أي القدرة على التسديد السريع للالتزامات المالية _، وفق مصطلح “عولمة الأسواق Globalization of Market”، الذي أخذت منه ما يتوافق مع الشريعة الإسلامية من مشتقات، وفق بنك التسويات الدولي (Bank of International Settlements) الذي يتبع صندوق النقد الدولي (IMF) (International Monetary Fund). ويمكن عدَّ هذا الأخذ أو التوافق بناء على ما جاء عن النبي r إذ قال في الحديث الشريف: “من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص من أوزارهم شيئاً”(رواه مسلم وأحمد الترمذي والنسائي وابن ماجه، صحيح الجامع، صحيح البخاري). وقديماً قال سفيان الثوري وسفيان بن عيينة رضي الله عنهما: “إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد”(كما جاء في جامع بيان العلم وفضله). بينما رفضت بعض المشتقات المالية التي لا تتناسب وتعاليم الشريعة السمحة؛ ومن هذه المشتقات:
1. العقود الآجلة (Forward Contracts)، وقد عرَّفتها هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، بأنها: “عقود مؤجلة البدلين، تترتب آثارها في تاريخ محدد في المستقبل، وتنتهي بالتسليم والتسلّم في ذلك الموعد”. وقال مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بتحريمها، حيث جاء في بيان صور التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة ما نصه: ” الطريقة الثالثة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل، ودفع الثمن عند التسليم، وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم، وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة، فإذا استوفى شروط السلم جاز، وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها “، وجاء فيه: ” الطريقة الرابعة: أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل، ودفع الثمن عند التسليم، دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس، وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً “، وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي: ” خامساً: إن العقود الآجلة بأنواعها، والتي تجري على المكشوف، أي على الأسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في الأسواق المالية (البورصة) غير جائزة شرعاً “.
2. العقود المستقبلية (Future Contracts)، وعرَّفها الدكتور نضال الشعار بقوله: ” يمثل العقد المستقبلي اتفاقاً قانونياً ملزماً بين طرفين هما: البائع (Seller)، والمشتري (Buyer)، يتعهد فيه المشتري باستلام موضوع (محل) التعاقد لقاء سعر محدد، وفي نهاية الفترة المتفق عليها، وبالمثل يتعهد البائع بتسليم موضوع (محل) التعاقد عند السعر المحدد، وفي نهاية تلك الفترة أيضاً “. وجاء حكمها حسب هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية: ” لا يجوز شرعاً التعامل بعقود المستقبليات، سواء بإنشائها، أم بتداولها “. وعن تحريم هذه العقود في العملات جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي النص بتحريمها، حيث جاء في قراره حول الأسواق المالية: ” يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربعة المذكورة في التعامل بالسلع، ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة”، وحول الاتجار بالعملات: ” لا يجوز شرعاً البيع الآجل للعملات، ولا يجوز المواعدة على الصرف فيها، وهذا بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة “.
وقد المجال أكثر في المحاضرة التي أقامها النادي الثقافي حول “البرنامج التثقيفي للمالية الإسلامية”، التي يقدمها الدكتور محمد بن راشد الغاربي رئيس هيئة الرقابة الشرعية في بنك نزوى. انطلق في تفصيل الحديث فيها من ثلاثة محاور هي كالآتي:
ـ التعريف بالبنوك الإسلامية والتأصيل الشرعي لها، والفرق بينها وبين البنوك التقليدية.
ـ الأدوات التمويلية في المصرفية الإسلامية.
ـ الأدوات الاستثمارية في المصرفية الإسلامية.
أسهب الدكتور الغاربي في تبيان تفاصيل هذه المحاور منها “نظرة التشريع الإسلامي إلى المال ومنزلته فيه”، وقد شهدت المحاضرة الافتراضية أسئلة عديدة من الجمهور؛ دليل على أهمية المالية الإسلامية والحديث أو التثقيف عنها بين الفينة والفينة.