مجانية التعليم للجميع..كانت مناسبة للماضي وليس للحاضر أو المستقبل

أ.د. أحمد حسين الصغير| أستاذ ورئيس قسم أصول التربية

        منذ أن صدر دستور 1923م الذي أقر حق مجانية التعليم الابتدائي ومرورا  بدستور 1954م وظهور مقولة طه حسين في الخمسينات من القرن الماضي " التعليم كالماء والهواء" ووصولا إلى دستور 1971م الذي أعطى حق التعليم بالمجان لأبناء المجتمع المصري في كل مراحل التعليم، وهذا الحق يستند إلى تأكيد العدل التربوي والاجتماعي والاقتصادي لكل المصريين، ولما كان للتعليم من دور مهم في الارتقاء بمستوى الأفراد والمجتمع، وكان للشهادة بريق في نفوس المصريين وتقدير كبير من المجتمع، وظهر ذلك جليا في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

        حيث زيادة الوعي بأهمية التعليم، الذي أدى إلى زيادة الطلب الاجتماعي على التعليم في كل مراحله، وبمرور الزمن ودخول المجتمع المصري في فترة الرأسمالية والانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينات تقريبا، رويدا رويدا بدأت تخفت قيمة الشهادة العلمية ومن ثم قيمة صاحبها نفسه، وظهر معيار جديد جعل قيمة الانسان لا ترجع لما يملكه من علم ومعرفة وقيم وإنما لما يملكه من أموال وعقارات وشركات، وتغيرت النظرة للتعليم والمتعلمين ولم تعد للشهادات قيمة تذكر، وبالرغم من انخفاض قيمة الشهادة وبطالة المتعلمين، فإن الطلب الاجتماعي علي التعليم لم يتأثر بكل مراحله بهذا التغير الجوهري.

        وإنما زاد الطلب الاجتماعي على التعليم قبل الجامعي والتعليم الجامعي، بنسب كبيرة للغاية تتناسب مع نسب المواليد المتزايدة عاما بعد عام في المجتمع المصري، وهذه الزيادة ترجع إلى استمرار الوعي بأهمية التعليم بغض النظر عن قيمة الشهادة أو حتى مواصفات الخريج، فهناك حس اجتماعي  عام يرى أن تعليم الأبناء من الأهمية بمكان لمستقبلهم بغض النظر عن نتائجه الحالية، إلا أن هذه الزيادة المستمرة في الطلب الاجتماعي على التعليم بكل مستوياته، دون توفر زيادة مقابلة في الامكانات والبنى التحتية وغيره من متطلبات العملية التربوية والتعليمية، أدت إلى مشكلة حقيقية تمثلت في تدني نوعية التعليم ومن ثم تدني جودة المخرجات التعليمية.

        وباتت مجانية التعليم مجانية غير حقيقية لأن ما يتم توفيره من ميزانيات لا يقابل ببساطة الطلب الاجتماعي على التعليم في كل مراحله، ومن ثم لم تعد المباني والمعامل والقاعات والأجهزة والتقنيات والفصول والرواتب والأنشطة والمناهج وطرائق التعليم والادارة-لم تعد- مناسبة لمعايير الجودة التي يتغنى بها التربويون في كل مكان، فأصبحت المجانية غير حقيقية ونجم عنها ضعف الاستفادة من البحث العلمي، وتدني نوعية وكفاءة خريجي التعليم.

        وأصبح من الضروري تجاوز مرحلة المجانية وحق التعليم للجميع، والتحرك قدما إلى مرحلة المجانية وحق التعليم الجيد للجميع، لأن هذا هو منطق الزمن ومنطق التطور فإذا كانت المجانية ومجرد حق التعليم مناسبة للماضي فإن الحاضر والمستقبل لا يناسبه إلا المجانية وحق التعليم الجيد للجميع، وهذا الحق له تبعاته التي يجب أن تتحملها الدولة والمجتمع بكل هيئاته ومؤسساته، باعتبار أن التعليم أمن قومي، والانفاق عليه ورصد الميزانيات المناسبه للوفاء بمتطلباته إنما هو استثمار بعيد المدى في رأس المال البشري.

        وهناك اعتقاد راسخ تدعمه دراسات عديدة، وهو أن الإنسان هو السبب الرئيس في التقدم والتخلف، وعلى هذا الأساس يقال أن الفرق بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة، هو فرق بين نوعية الإنسان في هذه المجتمعات، وهذا الفرق  في نوعية الانسان يصنعه التعليم، وهو لا يقاس بما يملك الإنسان من ثروة وقصور وغيره من الملكية المادية، وإنما بما يملك من علم وفكر وأساليب سلوك وقيم ومهارات واتجاهات إيجابية وفضائل وقدرة على التخطيط والبحث العلمي والعمل الجماعي والابتكار والابداع وإنتاج المعارف، وهو ما لم يحدث إلا بإتاحة التعليم الجيد للجميع.

        إن إحراز التقدم في هذا العصر رهن بتوفير تعليم على مستوى عال من الجودة، وإذا أراد المجتمع المصري أن يشارك بحق في مستقبل أفضل لأبنائه، فلابد من توفير تعليم جيد لجميع أبناء المجتمع بغض النظر عما اذا كانوا فقراء أو أغنياء، فهو حق للجميع، وما قصدته بأن المجانية وحق التعلم للجميع كان مناسبا للماضي هو أنني أبدا لا أنحو منحى من يطالبون بالغاء المجانية، وإنما أطالب بمجانية حقيقية تستند إلى حق التعليم الجيد للجميع، وضرورة تحمل تبعاته، ووضعها ضمن أولويات المجتمع المصري بكل هيئاته ومؤسساته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى