في الوعي التاريخي والوعي الزائف
الدكتور خضر محجز | فلسطين
أولاً: الأيديولوجيا والوطن:
الأيديولوجيا هي حزمة من الأفكار المنظمة، أنشأها أناس ماتوا، في زمن مضى، وتصر على التحقق في الواقع المجتمعي اليوم.
ولأن الأيديولوجيا لا ترى في الوطن سوى وسيلة لتطبيق هذه الأفكار، فحاملوها هم جماعة لا يمكن اتهامهم بالوطنية.
جماعة من هذا الصنف وطنها الأيديولوجيا. ومن كان وطنه مجموعة أفكار، فهو لا يرى الشعب، بل يرى الأفكار فقط. وغني عن الذكر أنه في الحقيقة لا يرى سوى نفسه: ذلك لأن الأيديولوجيا ـ بطبيعتها ـ تحوط نفسها بطبقة من كبار المفسرين، يصادرون الأيديولوجيا التي صادرت الوطن.
وعلى سبيل المثال يمكن القول، بأن الإيديولوجيا الإسلامية تقرر مبدأ العدالة في كتاباتها ونصوصها التي يُفترض أنها سماوية. لكن كبار مفسري الأيديولوجيا الإسلامية، لا يطبقون العدالة حتى حين يتعاملون مع عناصرهم، بدليل أن لديهم امتيازات تثير حنق عناصرهم، فكيف سيطبقونها حين يتعاملون مع من يسكن هذا المكان، الذي لم يعد سوى حقل الأيديولوجيا الخاص؟
الأيديولوجيا والوطن مفهومان متعارضان لا يلتقيان، لأن سلطة الوطن يختارها الشعب، أما سلطة الأيديولوجيا فيختارها الحزب.
ثانياً: الأيديولوجيا والعقيدة:
العقيدة إيمان دون عمل فارض، إيمان شخصي بصحة الأفكار، ودعوة للناس للإيمان بها.
أما الأيديولوجيا، فهي انتقال العقيدة من طور الدعوة، إلى طور وضع برنامج عمل، لتطبيق هذه الأفكار في المجتمع، باستخدام الوسائل الكفيلة بذلك، وإنفاق الوقت في ذلك، بما قد يؤدي إلى تحقق الأفكار على الأرض، لكن في زمن مختلف.
وهكذا تفرض الأيديولوجيا أفكاراً قديمة على واقع جديد.
لهذا اعتبر ماركس ـ بحق ـ أن الأيديولوجيا وعي زائف، لأنه كان عليها أن تراعي الزمن حين التطبيق. وإذ كان متعذراً على مجموعة الأفكار الجاهزة أن تتواءم مع الواقع، إلا بتغيير بعض من نفسها، فإنها تفضل التشبث بالتعاليم السابقة كما تنص عليه التعاليم السابقة (فتسميها مبادئ) التي صارت الآن غير صالحة للواقع.
الاشتراكي المؤمن بضرورة تحقيق عدالة اجتماعية تحقق انتصار العامل على وسائل العمل، لا يعتبر أيديولوجياً، إلا إذا أقام لذلك برنامجاً ملتزماً بكل ما قاله ماركس وأنجلز في هذا الصدد.
والمتدين المؤمن بالله واليوم الآخر، ويسعى لأن يقنع الناس بهذا، لا يعتبر أيديولوجياً إلا إذا أقام لتحقيق ذلك برنامجاً ملتزماً بكل ما قاله حسن البنا وسيد قطب (أو أي أحد يشبههما) في هذا الصدد.
ثالثاً: نتيجة ما سبق:
الإخوان المسلمون والإخوان الشيوعيون أقرب الناس بعضهم إلى بعض. لكن في واقعنا الفلسطيني، يجب التوقف عن اعتبار حزب الشعب الفلسطيني، أو الجبهة الشعبية، أحزاباً شيوعية، بعد مؤتمراتها الأخيرة التي كسرت مقرراتُها ضرورة الالتزام بالتابو. ذلك أن التنظيمين يرغبان في نيل بركات الماضي فقط، دون الالتزام بما كان ينص عليه الماضي في الماضي، من أدوات ليست بالضرورة صالحة لليوم.
أما الإخوان المسلمون فما زالوا النموذج الذهبي للأيديولوجيا، أو للوعي الزائف.
رابعاً: الوعي التاريخي: وعي الإنسان بقوته وبقوة الزمن:
الوعي التاريخ يعني أن تقدر للزمن ما يصلحه، من إنتاجه هو لا من إنتاج زمن آخر. وعكسه الوعي الزائف، الذي يعني التمسك بصورة للتغيير من إنتاج الماضي، ولم تعد بالضرورة مناسبة للحاضر.
إذن فكيف يمكن أن يتحول الوعي الزائف إلى وعي واقعي؟
قلنا سابقاً إن الوعي الزائف هو قناعات ببرنامج عمل، يصر على التحقق في الواقع. ولأن كل برنامج عمل، هو بالضرورة من إنتاج زمن ماض، فقد كان لا بد له إلا أن يكون وعياً بما لا يتفق والواقع الحالي.
فإن رأى القائمون على الدعوة إلى التغيير، أن ثمة جوهراً يتضمنه هذا التغيير، وأدوات ليست بالضرورة من صلبه، فقرروا الاحتفاظ بالجوهر، والتضحية بالأدوات باعتبارها من إنتاج عصر لم يعد موجوداً، ولا يمكن ان يتكرر.. إن فهموا ذلك وطبقوه، وتمسكوا بالجوهر فقط، مستعينين بأدوات توافق زمنهم، خرجوا من عباءة الوعي الزائف وصاروا حاملين لوعي تاريخي.
هذا هو الفرق بين الوعي التاريخي والوعي الزائف.
خامساً: نظرية الإسلام السياسي نوع من الوعي الزائف:
لماذا نعتبر نظرية الإسلام السياسي وعياً زائفاً؟ لماذا نعتبرها مجرد أيديولوجيا؟
يقولون إنها من عند الله، ولكنها ليست من عند الله. ولقد أنزل الله الدين على محمد صلى الله عليه وسلم وأمره بتطبيق نموذج عام يحقق العدالة. وخلال رحلة تحقيق العدالة، طرأت حوادث اقتضت معالجة، فأنزل الله فيها أحكاماً واضحة، حكم بها النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الله سبحانه لم يشأ أن تتكاثر هذه الأحكام الفرعية، ولا أن تشكل نموذجاً يقاس عليه، لأن من شأن ذلك أن يجمد الإسلام عند تصور حقبة زمنية في واقع صحراوي.
لقد جاءت الأحكام الفرعية نادرة وقليلة ولا تتعدى أصابع اليدين إن لم تكن أقل. مما يعني أن الدين السماوي كان يرجو من المسلمين أن يلتفتوا للعلل والأسباب والمستقبل والجغرافيا. ولم يكن من تلك الأحكام الفرعية تولية خليفة، بدليل أن الصدر الأول من الصحابة تنوعت أساليبهم في اختيار الحاكم:
1ـ فانتخبت النخبة واحداً منها، كما في استخلاف أبي بكر.
2ـ ثم قبلت النخبة استخلاف السابق لواحد منها، هو عمر.
3ـ ثم توسعت النخبة، وامتدت مساحة المقترعين أكثر، وإن ظلت النخبة هي الفيصل ـ وزاد عدد المرشحين ستة ـ كما حدث في اختيار عثمان.
4ـ ثم بايعت النخبة الأولى ـ نخبة أبي بكر ـ للخليفة الرابع، دون استشارة الأطراف التي صارت بعيدة وقوية، وكانت ترى من حقها أن تصير جزءاً من النخبة.
سادساً: أول علمانية عربية:
وهكذا ترون كيف أمكن للماضي أن يفسد الحاضر. فلو أن علياً ـ عليه السلام ـ غَيّر من نمط الاستخلاف، بما يرضي بعض مراكز القوى التي أنتجها زمن جديد، فأصبحت واقعاً تاريخياًـ فلربما لأمكن تجاوز الفتنة الكبرى.
معاوية كان استجابة الزمن للتغيير. معاوية كان يمثل سقوط الأيديولوجيا، والانفتاح أمام العلاقات التاريخية.
قلت سابقاً إن أول علمانية عربية كانت هي الدولة التي أنشأها معاوية وخلفاؤه.
والآن يريد منا الأيديولوجيون الآن أن نبني سقيفة، وأن نجمع فيها نخبة ضئيلة ـ لا نعلم من سيجعلها نخبة ـ ثم نختار واحداً من بيننا، ونقتل من يرفض منهم أن يبايعه، قبل الخروج من السقيفة.