سيظلّ “طائر الوروار” ينشر البهجة في صباحاتنا
عبد الرزّاق الربيعي | مسقط
حين وصلني خبر غياب الملحّن اللبناني الياس رحباني عن (83) سنة متأثّرا بفايروس “كورونا” رفرف على رأسي طائر الوروار، الذي ارتبط بأشهر أغاني فيروز، وألحانه، وكانت “إذاعة بغداد”، كسائر الإذاعات العربيّة في السبعينيات، وما تلاها، اعتادت على بدء بثّ برامجها بوجبة فيروزيّة، وحين يحلّ طائر الوروار بجناحين رشيقين، يصبح لصباحي طعم مختلف، ويوما بعد آخر، نشأت علاقة مع هذا الطائر السريع، الخفيف الحركة، المعروف عنه أنّه يلتهم النحل، خلال طيرانه، ورغم تهديده لرحم العسل هذا، أحببناه، فكان يضفي على صباحاتنا بهجة، فنوصيه أن يحمل سلامنا للـ “حبايب” البعيدين المقيمين فوق “تلال الشمس المنسية”، ولم يكن لحن الياس رحباني لهذه الأغنية وحيد زمانه، فقد لحّن أكثر من ألفي أغنية، إلى جانب مسرحيات غنائية عديدة، وكتب قصائد جمع بعضها في ديوان حمل عنوان” نافذة العمر”، ووضعه الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام أشهرها” دمي ودموعي وابتسامتي”، فرفد مكتبتنا الموسيقيّة العربيّة، بمقطوعة مليئة بالشجن، لا نملّ سماعها، ولكن من بين تلك الروائع، ظلّت أغنية “طير الوروار ” عالقة بذهني، بكلمات الأخوين رحباني، التي تنتمي للسهل الممتنع، البسيطة المعاني، والتراكيب، كسائر بقيّة الأغاني، المستقاة مفرداتها من البيئة اللبنانية: “دخلك ياطير الوروار رح لك من صوبن مشوار سلم لي عالحبايب وخبرني بحالن شو صار عاتلال الشمس المنسية على ورق الدلب الأصفر انطرونا اشويه اشويه وتصير الدنيا تصغر وبكروم التين ينده تشرين ياحبيبي” وبرحيل الياس رحباني، خسرنا الحجر الثالث من الأثافي التي نصب عليها قدر موقد الأغنية الرحبانيّة، حينما ظهرت مطلع الخمسينيّات، وتكرّست بعد اقتران عاصي بفيروز عام 1955م، وقدّمت مائدة لذيذة من الكلمات، والموسيقى، والألحان، التي طالما صدحت بها حنجرة “فيروز”، والياس الرحباني هو الأخ الثالث “للأخوين رحباني”، وعمّ صباحاتنا الفيروزيّة، وهو لا يقلّ عن شقيقيه عاصي الذي غادرنا سنة 1986 م، ومنصور سنة2009، عطاء، ومثلهما.
لم تتوقّف ألحانه عند حدود الأغنية، بل تجاوز ذلك إلى المسرح الغنائي، الذي جعلوا منه منطقة وسطى بين الأوبرا والأوبريت، لتتشكل ملامح مدرسة الأغنية الرحبانيّة، وتميّزت كونها تنتمي للإنسان، وقضاياه، ليظهر لون غنائي جديد غمر صباحاتنا بعذوبة، بسرعة تشبه سرعة طائر الوروار، وجماله، واليوم، مع رحيل هؤلاء الكبار، والمتغيّرات التي طرأت على الذائقة، وشملت القضايا، يتساءل البعض:هل سيجفّ نبع هذه الأغنية؟ إن هذه الأغنية المعمّرة مثل شجرة سنديان، العميقة الجذور التي سبقت عصر ظهورها، وبه سادت به الأغنية الطويلة، فجاءت بلون مختلف، سريع الإيقاع، مبهج، يعطي للسامع حيوية، كلّ المعطيات تشير، أنّها ستبقى، كونها، إلى جانب ما ذكرت، من أسباب، تتّسقّ مع العصر، وإيقاعه، وتتّصل بالإنسان، وأحلامه، والحبّ، والسعادة، وهي رموز تبقى حيّة ما بقي الإنسان، وسيبقى خزينها، الذي تركته لنا، وللأجيال القادمة، وسيتواصل جديدها من خلال الحان زياد الرحباني ،وأعمال أولاد منصور “مروان وأسامة وغدي” الذين حلّوا في منتصف أبريل 2014 ضيوفا على دار الأوبرا السلطانية بمصاحبة عدد من الأصوات اللبنانية منها: غسان صليبا ،ورونزا ،وفاديا طنب الحاج ،وهبة طوجي ،وسيمون عبيد ،ونادر خوري وإيلي خياط، وأحيوا حفلين تضمّنا مؤلفات للأخوين رحباني، وأغنيات من تأليف إلياس، مروان، غدي، وأسامة الرحباني، وقد جمعتني جلسة في كواليس دار الأوبرا مع الأخوين مروان، وغدي اللذين كوّنا شراكة فنّية، وكانت أنفاس عمّهما الياس حاضرة، مثلما حضرت فيروز، وابن عمهما زياد، وكان السؤال الذي بدأت به حواري معهما هو عن سرّ نجاح الأغنية الرحبانيّة ؟ يومها أجاب مرون” ببساطة ، لأنّها خرجت من الفقر فعاصي، ومنصور ينتميان إلى أسرة متواضعة ،بل أكثر من فقيرة، لذا خرجت أغانيهما من أوجاع الناس، ومعاناتهم، وعبّرت عن أحاسيسهم، وتناولت موضوعات قريبة من حياتهم، وجاءت بلغة جديدة، ومختلفة”، لذا، فهذا الصرح الغنائي، والموسيقي سيستمرّ، وسيظلّ “طائر الوروار” ينشر البهجة في صباحاتنا الفيروزيّة.
الصور:
١-الياس رحباني
٢-فيروز وزوجها عاصي
٣- مع مروان وغدي منصور الرحباني ٢٠١٤ بدار الاوبرالسلطانية